وهم العروبة /عثمان نواى

فى ذكرى الاستقلال، نبش الكثيرون فى التاريخ فى محاولة لفهم كيفية صناعة تلك النقلة التاريخية. ذلك البحث لم يكن سببه الفخر او الرغبة فى الفخر بمنجزات الاجداد، بل كان على النقيض مدفوعا برغبة فى فهم اسباب مالات اختيارات السابقين وما اصبح من المؤكد انها اخطائهم وليست امجادهم، التى ادت بالسودان بعد ٦٠ عاما ليكون افشل الدول وافقرها واكثرها حروبا ودموية وانقساما وجرائم ضد الانسانية.
ان البحث عن الجذور بالطبع ما كان لهؤلاء المنقبين سوى رحلة من الاكتشافات المؤلمة.ولعله من اهم ما يثير الارتباك هو مسألة وضع السودان قبل الاستقلال، و حقيقة ان السودان كان تحت حكم مصرى وانجليزى، وان خيار الانجليز لان يفصلوا السودان عن مصر كان هو الفيصل فى صناعة استقلال السودان.
ان الداعين للاتحاد مع مصر او البقاء تحت التاج المصرى لم يغيروا رايهم حتى قبل الاستقلال بفترة وجيزة. وما يهمنا هو ليس الحدث التاريخى فقط بل ما يمثله ذلك الاختيار للبقاء "تحت التاج المصرى". ان ما اعتقده نخبة المثقفين السودانيين الذين تعلموا على ايدى المدرسين المصريين وتثقفوا من من اصدارتهم ، انما ظنوا انهم اقرب الى مصر اكثر من قربهم من سودانيتهم. اى ان هذا الخيار فى نظرهم كان يعنى انتمائهم لمكان افضل واقوى. وبالطبع تلك قد تكون عقدة ستكوهلم، عندما تعشق مضطهدك ، ولكن فى ظنى ان خيار الوحدة مع مصر كان خيارا نابعا من العقل الواعى لتلك النخب.
فما اختاره الازهرى ورهطه كان فى الحقيقة الانتماء الاتوماتيكى للعروبة. وجر السودان من خلال حدوده الشمالية الى الاعلى ثقافيا واجتماعيا وسياسيا. وظن اولئك انهم بذلك الخيار سيضمنون للسودان عروبة هى في نظرهم هى الهوية والانتماء الوحيد (للسودانيين). وبالطبع فان الجنوب وقتها كان مسالة غامضة ومنسية للانجليز والشماليين وحتى للمصريين. فهم لم يهتموا قط لاختلاف الجنوب وتنوعه كما لم ينظروا الى بقاع اخرى من السودان مثل جبال النوبة ودارفور ، سوى على انها مناطق غنية ( بالموارد) وتنتمى لخريطة السودان التى تمكن الانجليز من اقتلاعها من منافسيهم من المستعمرين الاخرين. وعليه تلك المناطق كانت مهمشة سياسيا منذ البداية. ونتيجة لذلك لم تكن ابدا ثقافاتاها او هويتها جزءا من مكون السودان الذى تصوره صانعو الاستقلال.
وهذا بالطبع ناجم عن النظرة الاستغلالية لتلك المناطق الافريقية الثقافة الغنية بالموار والتى ركز المستعمر بطبيعته على نهبها وليس تطويرها، ولانه مستعمر فلقد استسهل عملية النهب بالوكالة او الحكم اللامركزى الذى وجده المستمعر قليل الكلفة، وبالتالى قام بتطوير وصناعة شراكة مع زعماء الطائفتين باعتبراهم اصحاب نفوذ واسع اغنى الانجليز عن التمرغ فى اوساخ التعامل المباشر مع رعاياهم. ومن المعروف ان الشيوخ المحليين والتجار الشماليين كسبوا ثروات ونفوذ بحكم قربهم الجغرافى والدينى واللغوى من مصر التى كانت المستعمر قبل الحكم الثنائى واستخدامهم من قبلها ايضا كوسطاء لجلب العبيد والموارد الاخرى من المناطق الغنية جنوبا وغربا.
هذه القاعدة من الطبقة الارستقراطية السودانية المكونة من التجار وشيوخ القبائل والطرق الصوفية، هم الذين تبنى الانجليز تعليم ابنائهم فى بريطانيا فى سبيل كسب ولائهم ، وبالنهاية اصبح هؤلاء الابناء هم النخب التى سعت لصناعة الاستقلال لتواصل حكم السودان ولكن بصورة مباشرة فى تطور عن ما تمكن ابائهم من الوصول اليه. وعلى هذه البنية من الوعى المتوارث بماهية السودان ، العربى كما اراد له التاج المصرى و الذى احبت نخبنا الخضوع له سياسيا وثقافيا ، والاسلامى بالنتيجة ، تشكلت رؤية اقصائية احادية للسودان تجاهلت تماما اكثر من ٧٠٪ من مكونه الافريقى او غير العربى.
هذا الاصرار على العروبة كان الداء الذى ظن الانجليز انهم بمنع اخضاع السودان لمصر سيتمكنون من تحجيمه. وهذا ليس لمحبتهم للبلاد بل لمصلحتهم هم فى ذلك ولكن شكل ايضا بعد نظر اكتسبوه من معرفتهم بكل مكونات السودان التى ليست بالطبع عربية كما عرفوا هم العرب والعروبة. ولكن السودانيين من انصار الوحدة مع مصر يبدو انهم لم يروا فى انفسهم الجدارة الا ليكونوا وسطاء او (سماسرة)للبوس الكبير التاج المصرى، لم يستطيعوا ان يتركوا مهن ابائهم التى كانوا حريصين على تثبيتها، لانهم لولا لجوئهم لابائهم وسلطاتهم القبلية والطائفية والمالية لما تمكنوا من انشاء احزاب او صناعة كيانات سياسية تحترمها الجماهير ولظلوا مجرد افندية. 
وهنا تبدو الثغرة التاريخية الاساسية فنخب السودان قد اختارت the easy way اى انها لم تحاول بناء قواعد جماهيرية واعية لم تسعى لتعليم الناس بحقوقهم لم تنزل للقواعد والقرى وتوسخ تلك البدل والقمصان البيضاء فى الطرق الوعرة لقري وسهول ومستنقعات وجبال السودان. لم يركبوا القطار مثل غاندى ليعرفوا بلدهم قبل ان يقرروا له مصيره. ولماذا يفعلون وهم ابناء واحفاد الشيوخ والسادة والبيوتات ، ليس عليهم سوى الطلب من ابائهم وعلى المستضعفين من اتباع وترابلة وانصار وحوار الاجابة. لم يريدوا لهم ان يعرفوا او يعوا لا من هم من اهلهم ولا من هم بعيدين عنهم قبليا وعرقيا. ارادوا الناس جهلاء ليكونوا هم فقط من يحكمهم للابد.
لقد تراجع الازهرى عن الوحدة مع مصر، ولكن ليس لانه احب للسودان ان يكون حرا مستقلا، وليس لانه ورفاقه فهموا تنوع واختلاف السودان وارادوا ان يكون بلدا افضل، كلا بل لانهم اخيرا فهموا انهم بامكانهم ان يكونوا هم السادة وليس مجرد وسطاء او وكلاء. ان تلك السيادة ليس بالضرورة ان تملأ الخزائن بالمال فقط، كلا بل انها تملأ القلوب بالغرور والاستعلاء والرضا عن الذات، وانها تضمن لهم واسرهم واحفادهم ومن عاونهم وسايرهم وشابههم مكانة السيادة والقيادة وفرصة السيطرة على السودان، ومن هنا بدات قصة الحروب والدمار للسودان والتى لم تنتهى بعد.


Share on Google Plus

عن المدون gazalysidewalk.com

هنا نبذة عن المدون ""
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 comments:

إرسال تعليق