عقود الإذعان و الفساد في توصيل الكهرباء للمواطنين




مبادرة الشفافية السودانية
 
9 مايو 2016

بدأت صناعة الكهرباء في السودان في العام 1908م أبان الحقبة الاستعمارية وعهد الحكم الثنائي  بمولدات ديزل بمنطقة بري بالخرطوم بطاقة تقدر ب (855) كيلو واط ، وفي عام 1925م أنشأت حكومة الحكم الثنائي شركة النور والطاقة الكهربائية ، التي طورت تلك المولدات حتى وصل إنتاجها إلى (3000) كيلو واط ، واستمرت تلك الشركة في العمل حتى  قامت حكومة السودان بشراء كل أسهمها في العام 1952م .

وبعد استقلال السودان أصدرت الحكومة الوطنية قانون الإدارة المركزية للكهرباء والمياه في العام 1961م ، والذي تبعه في العام 1962 تشغيل أول محطة توليد مائية لتوليد الكهرباء بخزان سنار بسعة (15) ميقا واط ، وبدأت الخطوات الأولى لإنشاء الشبكة القومية للكهرباء .

وفي العام 1970م تم إنشاء أكبر محطة توليد مائية بخزان الرصيرص بطاقة بلغت (30) ميقا واط ، تم تطويرها فيما بعد حتى وصلت (40) ميقا واط . وتبع ذلك صدور قانون الهيئة القومية للكهرباء والمياه في العام 1975م ، ثم فصلت خدمات المياه عن الكهرباء في العام 1982م ، ليتوالى بعد ذلك تطور قطاع الكهرباء بالسودان بدخول محطات قري وبحري الجديدة ، حتى أكملت وزارة الكهرباء والسدود العمل في مشروع سد مروي في العام 2010م الذي تقدر طاقته التصميمية نظريآ بحوالى (1250) ميقا واط ، لتقترب بذلك الطاقة التصميمية لتوليد الكهرباء في السودان من (3000) ميقا واط .

ويلاحظ من هذا السرد التاريخي بأن صناعة الكهرباء في السودان ظلت محتكرة للشركات والهيئات الحكومية ، فقد كانت الهيئة القومية للكهرباء في السودان ومنذ إنشائها في العام 1975م تحتكر عمليات التوليد والنقل والتوزيع ، إلى حين صدور قانون الهيئة القومية للكهرباء لسنة 2001م والذي تم بموجبه فك الاحتكار الحكومي لصناعة الكهرباء و في العام 2010م  تم حل تلك الهيئة وإحالتها بقرار من مجلس الوزراء إلى خمسة شركات ، هي شركة كهرباء سد مروي ، والشركة السودانية للتوليد المائي المحدودة ، والشركة السودانية للتوليد الحراري المحدودة ، والشركة السودانية لتوزيع الكهرباء المحدودة ، والشركة السودانية لخطوط النقل المحدودة . لتواصل تلك الشركات  ذات سياسة الاحتكار لخدمات الكهرباء .

وتستند الهيئة القومية للكهرباء والشركات الخمس التي حلت محلها ، على عدة قوانين ولوائح أهمها قانون الكهرباء لسنة 2001م ، واللائحة التجارية للهيئة القومية للكهرباء لسنة 1993م التي تنظم العلاقات التجارية بين الهيئة وزبائنها ، وفى مقدمتها حصول الزبائن على الإمداد الكهربائي بعد إكمال تعاقدهم معها ، أو مع الشركات التي انشات بموجبها لاحقا بعد إيفائهم لمجموعة من الالتزامات التي يفرضها عليهم هذا التعاقد .

وفيما يختص بعقد توصيل الكهرباء موضوع هذه القصة ، فهذا العقد يبرم بموجب المادة (12) الفقرة (1) من اللائحة التجارية للهيئة القومية للكهرباء لسنة 1993م ، والتي تنص على امداد أي زبون بالتيار الكهربائي متى ما تقدم بطلب واكتملت إجراءاته ، وقام بدفع مساهمته في تكلفة المعدات الخاصة بالتوصيل حسب جدول المساهمات المقررة أو التكلفة التي تحددها الهيئة من وقت لآخر ، على أن تعتبر تلك المعدات ملكاً للهيئة التى تتولى مستقبلاً تشغيلها وصيانتها وتجديدها ، كما تنص الماده (6) من نفس اللائحة على الآتى :
  • يفتح ملف للزبون بعد إبراز شهادة إثبات ملكية للعقار  الذى يتم التوصيل إليه أو عقد إيجار ساري المفعول .
  • قيام الفنيين بزيارة ميدانية للموقع لتحديد المعدات الكهربائية المطلوبة للتوصيل .
  • بعد التصديق على الطلب ، يذهب الزبون إلى إدارة الحسابات لدفع المساهمة في الشبكة والتي تعادل قيمة المعدات المطلوبة لتوصيل الكهرباء إلى عقاره من اقرب شبكة كهربائية
  • يوقع الزبون على عقد الحصول على التيار الكهربائي مع الهيئة .
  • بعد توريد تلك القيمة وتوقيع العقد ، يتم توصيل التيار الكهربائي للعقار .
والجدير بالذكر بأن اللوائح المالية التي سبقت لائحة العام 1993م لم تنص على إلزام الزبون بتسديد قيمة التوصيلات الخارجية ، حيث كانت الهيئة القومية للكهرباء تتكفل بتغطية تكلفة هذه التوصيلات و عندما أزدات الطلبات للإمداد الكهربائى للمنازل ، بدأت تطلب من المواطنين فى القرى و الأحياء بتحمل تلك التكلفة من مواردهم الذاتية مثل الدعم الشعبى أو التبرعات من رجال الأعمال و النقابات و الأتحادات و بعض المؤسسات الحكومية . إلا أن هذا الإجراء لم يدرج فى اللوائح السابقة مما يوحى بأنه أعتبر أجراء مؤقت لحين تحسن موراد الهئية المالية ليتم الإستغناء عنه ، رغم أن الهيئة كانت تشترط أن تؤول ملكية هذه المعدات لها من أجل إداررتها التى تقتضيه المصلحة العامة . من الواضح أن هذا الوضع الإستثنائى قد أغرى الهيئة لاحقاً  لتقنينه بتضمينه في لائحتها المالية ، ساعدها فى ذلك التوجه الحكومي العام نحو التخصيص و بيع اللمتلكات العامة ، الى تحميل المواطن الكثير من الالتزامات المالية الحكومية  و الاعتماد على الجبايات والرسوم كأحد أهم مصادر الحكومة المالية  .

والمتأمل لعقد توصيل الكهرباء الذي كانت تبرمه تلك الهيئة سابقاً ، وواصلت في إبرامه الشركات المنشأة حديثآ ، يجد أنه  يحمل كل معاني الإجحاف ضد المواطن ، فهو عقد إذعان بالمعني القانوني لهذا النوع من العقود التى تنعدم فيها المنافسة ، وأن الطرف القوي  (المحتكر) هو الذي يملي شروطه على الطرف الضعيف (المواطن) الذى لا يحق له مناقشة تلك الشروط  أو الاعتراض عليها  مما ينتج عنه نوع من الفساد يتمثل فى أستيلاء الشركة السودانية للكهرباء على أموال المواطنين بالباطل على النحو التالى :
  1. يفرض العقد على الزبون المساهمة فى او تغطية تكلفة المعدات الخاصة بالتوصيل الخارجي و التى تؤول ملكيتها لاحقآ للشركة السودانية لتوزيع الكهرباء أو الهئية سابقآ ، مما يعنى أن المواطن يدفع قيمة معدات لا يملكها مثل المحولات و أعمدة الكهرباء و الأسلاك وأى معدات أخرى تحتاجها الشبكة الخارجية.
  2. إلزام الزبون بدفع قيمة تلك المعدات يعتبر تحصيل ضريبى مزدوج ، حيث أن نفس المواطن يقوم بدفع الضرائب للدولة فى مقابل الخدمات التي من المفترض أن تقدمها الدولة من تعليم وطرق ومياه وصحة وكهرباء .
  1. يتضح أيضآ فساد الهيئة القومية للكهرباء و الشركات التى تلتها في تحصيل قيمة ذات التوصيلات الخارجية من أكثر من زبون في بعض الأحيان . فعلى سبيل المثال إذا قام أحد الزبائن بدفع قيمة تلك التوصيلات الخارجية  ورغب أحد جيرانه في توصيل التيار الكهربائي فإن الشركة تطلب منه دفع قيمة نفس المعدات مرة أخرى .
  1. أيضاً تتجلى مظاهر فساد هذا العقد في عدم تضمينه  أى التزامات على الهيئة أو الشركة في حالة إخلالها بتنفيذ بنوده . فمثلآ ، فى عام 1997م ، قامت الهيئة القومية للكهرباء بأستحداث نظام عدادات الدفع المقدم الرقمية ، إلا أن العقد لا يحتوى على أى شروط جزائية على الهيئة او الشركة فى حالة عجزها عن تقديم هذه الخدمة . 
  1. فى الآونة الأخيرة و استناداً على قرارات صادرة من المجالس التشريعية ببعض الولايات ، تم ربط شراء التيار الكهربائي بسداد فاتورة استهلاك المياه . أن مثل هذه الممارسة الفاسدة  تحتوى على مخالفة قانونية للعقد المبرم بين الهيئة أو الشركة مع زبائنها لإمدادهم بالتيار الكهربائي نظير مجموعة من الالتزامات ليس من بينها تسديد فاتورة المياه . الجدير بالذكر إن استهلاك المياه يحكمه عقد آخر منفصل  يبرم بين المواطن و هيئات وإدارات المياه بالولايات والمحليات .

الجدير بالذكر أن عقد توصيل الكهرباء خلى تمامآ من أي إشارة للمساهمة المالية التي يسددها المواطن لتغطية تكلفة شبكة التوصيل الخارجية ، كما أن الإيصالات المالية التي تسدد بموجبها  تلك المساهمة لا توضح الغرض الذي من أجله تم تسديد ذلك المبلغ .
تمثل قضية عقود الإذعان والفساد في توصيل وتوزيع الكهرباء فقط أحد أبعاد الفساد الضاربة في كافة مراحل عملية صناعة الكهرباء مثل التوليد والنقل، خاصة الفساد والإستغلال والإنتهاكات التي صاحبت تشييد سد مروى وغيره من سدود.

ولكي تبدأ محاولات جادة في التعامل مع جزئية عقود الإذان والفساد المصاحب لعملية توصيل وتمتع المواطنين بخدمة التيار الكهربائي، ضمن عملية إصلاح شامل لعملية صناعة الكهرباء، هنالك حوجة ملحة لأان يعود الدور المركزي والقومي الذي كانت تقوم به الهيئة القومية للكهرباء والمياه في الإشراف والإدارة والتشغيل لكافة مراحل وخطوات عملية صناعة الكهرباء ( التوليد والنقل والتوزيع/ التوصيل).

و لتصحيح هذا الوضع المعيب  يجب على هذه الشركات و وزارة الكهرباءو السدود المراجعة والبحث وإصدار التوصيات الخاصة بإيقاف عملية تحصيل تكاليف المعدات والتوصيلات الخارجية الخاصة بشبكة الكهرباء ، و التأكيد على الملكية العامة الحكومية للبنية التحتية لقطاع الكهرباء، والتي تقتضيها المصلحة العامة، بما فيه المعدات والتوصيلات الخارجية للتيار الكهربائي، و على الشركات الحكومية المعنية بتوفير خدمة الكهرباء تعويض المستخدمين لخدماتها بإضافة المبالغ التي قاموا بسدادها كتكلفة للمعدات والتوصيلات الخارجية، على أن تضاف قيمة التعويض تلك إلى ما يدفعونه من قيمة لإستهلاكهم المقدم وإيقاف تحصيل ذات الرسوم من أكثر من مواطن ممن يشتركون فى نفس خط الأمداد.

كذلك يجب أن تهتم المنظمات القانونية والحقوقية بمناهضة الشروط المجحفة والتعسفية التي يتضمنها هذا العقد ، وعدم الاستسلام إليها ، والاستناد على نص المادة (118) من قانون المعاملات المدنية لسنة 1984م ، التي تنص على أن العقد إذا تم عن طريق الإذعان وتضمن شروطاً تعسفية ، جاز للمحكمة أن تعدل هذه الشروط ، أو تعفي الشخص المذعن منها . كما أن نفس المادة من القانون تجيز للمواطنيين مقاومة شروط العقد التعسفية  وذلك برفض تسديد تكلفة التوصيلات الخارجية بحجة أن الشبكة الخارجية ليست ملكآ لهم .

وأخيرا لمناهضة الشروط التعسفية والمجحفة التي يتضمنها هذا العقد الفاسد ، يجب أن يتم تسليط الضوء إعلاميا على إجحافه وتعسفه وفساده ، حتى يتم خلق رأي عام ضده ، مما قد يضطر تلك الشركات التي حلت مكان الهيئة القومية للكهرباء لإلغاء تلك الشروط التعسفية والمجحفة التي يتضمنها هذا العقد .
Share on Google Plus

عن المدون gazalysidewalk.com

هنا نبذة عن المدون ""
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 comments:

إرسال تعليق