عرفت أدبيات الحياة اليومية في السودان ما يسمى ب"الكشة" في سياقات عديدة ، منها على سبيل المثال كشة الإعادة القسرية الشهيرة التي انتظمت الخرطوم في ثمانينيات القرن الماضي، أبّان فترة حكم الجنرال جعفر نميري ، بغرض إخلاء الخرطوم من السودانيين النازحين إليها وإعادتهم إلى مناطقهم الريفية التي قدموا منها، حيث كان يتم ملاحقة المواطنين وشحنهم في سيارات نقل "دفارات" مغلقة ومن ثم نقلهم إلي القطارات ، وكانت تلك الحملات تستهدف بشكل خاص القادمين من غرب السودان. كذلك عرف السودانيين كشة الخدمة الإلزامية أو التجنيد الإجباري ، التي سادت إبان استعار الحرب في جنوب السودان في بدايات حكم الجنرال البشير ، و قد تزامنت معها كشات شرطة النظام العام ، المستمرة حتى الآن ، تنفيذاً لقانون النظام العام سيئ السمعة ، والتي تستهدف محلات بيع الخمور ومتعاطيها ، والمقاهي وأحياناً المنازل والأماكن العامة.
أما نوع الكشة التي نحن بصددها ، والتي تجري وقائعها الآن بأسواق محليات ولاية الخرطوم المختلفة ، فأمرها معقد قليلا ، إذ أنها تجمع بين كل ملامح وتدابير الكشات سابقة الذكر. فهي تتم وفقاً للأوامر التي تصدرها سلطات المحليات بالولاية ، إلا أنها تأخذ أيضآ منحى تنفيذ قانون النظام العام ، حيث نجد فيها أن التدخل البوليسي و العنيف هو طابعها المميز وليس الجانب الإداري . يستهدف هذا النوع من الكشات الباعة المتجولين بأسواق محليات ولاية الخرطوم ، من الذين أجبرتهم الظروف الاقتصادية على عرض بضاعتهم على الرصيف أو الأرض ، بحثاً عن مصدر شريف للرزق في مدينة يستحيل فيها امتلاك أو استئجار متجر، أو الحصول على ترخيص.
تعتبر (الكشة) آلية إفقار جهنمية تجسد كل تعسف الدولة في أقصى حالاته ، ففي ظل ظروف الفقر والواقع الذي يخًيم عليه البؤس والبطالة والتخلف والعوز المادي ، وفساد منظومة الحكم ، والضغوط الاقتصادية التي يعانيها المواطنين المنفيين داخل وطنهم ، (فالكشة) تستهدف نشاطهم الاقتصادي الذي يعتمدون عليه في تسيير حياتهم اليومية.
إن الأوامر المحلية والزرائع التى تستند عليها السلطات لتنفيذ هذه الكشات ، من الواضح أنها تعلو على أى إعتبارات آخرى مثل أحوال البائعين و غلاء المعيشة و ظروف الحرب الطارده فى مناطقهم و حقوق العمل و التنقل و الأقامة ... ألخ . فحجة "المظهر العام "والإخلال به ، قصد بها زيادة الجبايات لصالح سلطات المحليات ، إضافة لمحاربة فئات بعينها ليس لها من سبيل سوى أمتهان مثل هذه الأعمال ، لتوفير العيش الكريم و سد رمق أطفاهم و ذويهم . فأذا نظرنا لما هو معروض من مواد بواسطة هولاء الضحايا ، فنجد أن قليل القيمة لتوفير دخل يومي بسيط ، مثل أطباق الكسرة ( الخبز السودانى المحلى) و الفول السودانى و بذور البطيخ المحمص و الفواكه و السجائر والحلويات والصابون ، هذا إلي جانب الدرداقات (حوامل صغيرة بعجلة واحدة تدفع باليدين لنقل المواد خفيفة الوزن) التى فى الغالب يمتهنها صغار السن نسبة للمجهود البدنى الذى تحتاجه. الجدير بالذكر أن المحلية تتحصل رسوم يومية عن كل درداقة تصل إلي 30 جنيه ، و فى الآونة الأخيرة قامت المحلية بمصادرة هذه الدرداقات المملوكة لأشخاص و فرضت على كل من يود أن يعمل فى هذه المهنةأن يقوم بأستجارها من المحلية و ذلك لزيادة مداخيل المحلية.
تشكل هذه الممارسة وضعية افسادية واضحة المعالم ، حيث أن سلطات المحلية تقوم ببيع البضائع المصادرة لأصحابها الأصليين بعد مداهمتهم و ترويعهم و مصادرة بضاعتهم ، وتستمر هذه الممارسة الفاسدة في الدوران ربما لأكثر من مرة واحدة فى اليوم . الوجه الآخر من هذا الفساد يتمثل فى إفساد التدابير المنوط بها تنظيم عمل هؤلاء الضحايا ، حينما يقوم الموظفين القائميين عليها بطلب الرشوه من الضحايا نظير التقاضي عن مصادرة البضائع المضبوطة ، وهو ما يعرف عند الباعة المتجولون ب (الكسرة) أو(الرقعة) أو(المرّاقة).
وللغوص في أعماق هذه الوضعية الافسادية استطلعنا المواطن " ع م " صاحب فراشة (مساحة صغيرة على الأرض أو منضده لعرض البضاعة) ملابس داخلية في وسط الخرطوم ، حيث سألناه عن الغرامة التي يدفعها إذا تم القبض عليه ؟ فأجابنا بأنها غير محددة ، فأحيانا يتم تقديرها حسب كمية البضاعة ، إلا أنها تتراوح مابين 50 و 500جنيه ، و أنها كانت تسدد بدون إيصال مالي ، ولكن في الفترة الأخيرة أصبحت تسدد بالإيصال المالى رقم 15. وبسؤاله عن التدابير التي يتبعها لتحاشى الوقوع في دائرة الغرامة ؟ أوضح بأنه غالباً ما يضطر إلى دفع رشوة تعرف ب "رقعة" ، تقدر قيمتها حسب نوع و كمية البضاعة وهي ما بين 50- 100 جنيه ، ويتم تقديمها إلى الموظف قبل تدوين المخالفة . و أضاف كذلك أن الكشات فى بعض الأيام تكون متكرره ، مما يتسبب في خسائر مالية عالية للباعة ، لهذا يلجأ معظمهم لتقديم الرشوة إلى موظفى المحلية، الذين، فى معظم الأحيان ، يطلبونها صراحة بقولهم "خارج نفسك" ، خاصة أثناء ترحيل المقبوض عليهم بالدفار من موقع الكشة إلي مباني الإدارة ، وذكر بأن دفع الرشوة هو الخيار الأفضل لأنه يتيح لصاحب البضاعة بعرضها مجددآ بعد مغادرة الموظفين. بائع آخر شارك "ع م" نفس الرأى و أضاف أن حجز البضائع يفقدهم يوم عمل كامل ، بالإضافة إلى مخاطر تلفها و ضياعها ، خصوصاً أن استلام البضاعة لا يتم وفق إجراءات التسليم والتسلُم المتعارف عليها ، حيث أن كل البضائع المصادرة و المحتجزه توضع فى أكوام داخل مبنى مؤقت، كان مدرسة فى السابق ، لذلك يفضل الكثيرون أسلوب (المخارجة) لتجنيب بضائعهم هذا المصير.
كذلك أفادنا البائع "م ص" الذي يعرض بضائع متنوعة في شارع الحرية بالخرطوم ، بأنهم يجمعون مبلغ من المال من الباعة المتجوليين يوميآ و يدفعونه فى نهاية اليوم كرشوة لأحد العاملين بالمحلية ، نظير تحذيرهم مقدماً عندما تتحرك حملات المداهمة صوب أماكنهم ، و أيضآ مساعدهم في تسريع (المخارجة) في حالة القبض على أحدهم . فى أحيانٍ أخرى يبتدع الضحايا سبل مغايرة لتفادى كشات المحلية . فمثلآ عندما يزداد الترصُد على منطقة محددة من قبل موظفى المحلية ، يقوم الضحايا بتركها نهائيآ و الهجرة لمنطقة أخرى ، كحالة البائع "ع م" الذي دفعه الترصُد إلى هجر مكان عرض بضاعته المعتاد بسوق اللفة في الكلاكلة و الذهاب الى السوق العربي.
الآثار:
من الآثار السلبية المترتبة على هذا النوع من الكشة ، يأتى فى مقدمتها ، فقدان الضحايا لنشاطهم الأقتصادى الحيوى عند مصادرة بضائعهم التى هى كل ما يملكون مما يودى لتنامى الشعور بالمرارة والبؤس والظلم و الذى قد يقود بدوره الى امتهان أنشطة إجرامية كالسرقة والنهب وتجارة المخدرات والدعارة ، وهي نشاطات اشد خطراً على المجتمع من "تشويه الوجه المشرق للمدينة" ، و أن تكلفة مكافحتها تفوق ما تتحصل عليه السلطات المحلية من خلال الجبايات.
كذلك من الأثار السالبة لهذه الوضعية ، أن المداهمات العنيفة و الأزدحام و القوه التى تستعملها الشرطة و خوف الضحايا على اموالهم و أنفسهم ، قد تودى لأصابات جسدية كبيرة و فى بعض الأحيان الى إزهاق الأرواح كما حدث إبان (الكشة) الشهيرة التي حدثت فى يوم الخميس 7 مايو 2009 و انتهت بموت المواطنة نادية عبد الرحمن صابون وهي حُبلى و في الأربعين من عمرها . حسب رواية الشهود أن المرحومة كانت تسكن بمدينة امدرمان بحي دار السلام الفردوس ، وهو أحد أحياء الصفيح الطرفية في المدينة ، و كانت تمارس عمل بيع الشاي والقهوة تحت عمارة صديق النعمة بوسط الخرطوم ز فى ذالك اليوم داهمتها و أخريات يعملن فى نفس المكان ، عربة المحلية "الدفار" بشكل مفاجئ و عنيف ، حينها بدأت الضحية فى الهرولة و جمع ما تستطيع من حاجياتها قبل مصادرتها ، إلا أنها تعثرت أثناء ذلك وانغرست أحد أرجل المقاعد الحادة في بطنها وسقطت وهي تنزف بشدة ، فغادر رجال المحلية المكان وتركوها وهي غارقة في دمائها دون إسعافها لتفارق الحياة نتيجة لذلك الحادث.
أيضآ، من الآثار المترتبة على هذه (الكشات) هو تأثيرها السالب على نسيج المجتمع السوداني، لأنها تأخذ طابع العمليات الحربية أو العسكرية تجاه هؤلاء الباعة و الذين أتى معظمهم من مناطق النزاعات المسلحة فى دارفور و جنوب كردفان وشرق السودان، خاصةً النساء، مما يغذى الشعور بأن السلطات تستهدفهم لأنهم ليسوا من أهل الوسط و الشمال.
ومن الملاحظ بأن المحليات بولاية الخرطوم تعتمد بشكل أساسي على الجبايات كمصدر مالي لتسيير أنشطتها ، لذلك اتجهت إلى إصدار الأوامر المحلية التي تقنن هذه الجبايات مستندة على المادة 20 من قانون الحكم المحلي التي تنص على "يجب أن يتضمن أي أمر محلي يجيزه المجلس عقوبة السجن أو الغرامة على الإخلال به ،على أنه يجوز أن تصل العقوبة الي ضعف الحد الأقصى للمدة أو مقدار الغرامة في حالة الإخلال المستمر " ، كما انها تركت الهدف الأساسي من هذه الكشات جانبآ ، رغم عدم دستوريته ، و إستغلت هذه المطاردات و المداهمات لتحقق أغراض مالية سواء تلك التى تذهب لخزينة المحلية أو تلك التى يجنيها الموظفين الفاسدين.
مقترحات مقاومة هذه الوضعية الإفسادية:
- تنظيم الأسواق بالمحليات بطريقة تحفظ لهؤلاء حق ممارسة
هذه الأنشطة الأقتصادية التى يعتمدون عليها فلأعاشة و تربية أسرهم .
- محاسبة الموظفين الفاسدين التى يتكسبون من فرية تنظيم
الأسواق و الكشة.
- تدخل روابط المحامين و منظمات المجتمع المدنى للدفاع عن
المقبوض حليهم و الضغط على السلطات لتعويضهمعن الخسائر المالية التى تلحق بهم
جراء مصادرة بضائعهم.
- تنظيم إحتجاجات شعبية بقيادة منظمات المجتمع المدنى و
القوى السياسية لمناهضة التشريعات التي تكرًس الإخضاع الاقتصادي و
تصادر الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين وغالبيتهم من الشباب ،
بالإضافة إلى الأوامر المحلية الصادرة بموجبها التي تعمل بها محليات ولاية
الخرطوم.
- ترسيخ مبادئ الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وجعلها في
مقدمة أولويات التغيير ، من أجل التنمية ومحاصرة تداعيات الانهيار الاقتصادي
والأزمة الاقتصادية التي تعانى منها قطاعات واسعة من الشعب السوداني و مناطق
بعينها .
- لفت أنظار الرأي العام و زيادة وعيه حول إشكال الانتهاكات
والتجاوزات التي تُرتكب في حق الشرائح الضعيفة التي تخلت الدولة عن خدمتها.
0 comments:
إرسال تعليق