برغم مرور ستيناً عاماً على استقلال السودان، ما
زالت مهمة بناء دولة المواطنة، مهمة تنتظر الإنجاز، الامر الذي جعل قيمة المواطنة
تصطدم بكثير من العقبات والتحدّيات، والسبب الأساسي هو الفشل في بناء الدّولة
السودانية الحديثة، القائمة على الديمقراطيًة، والعدالة الإجتماعية، مما أجج
الصّراع، بين أبناء الْوَطَن الواحد، لاسيما في ظل الأنظمة العسكرية التي حكمت
السودان، ولعل أخطرها نظام الإنقاذ الحاكم الذي غيّب الديمقراطية القائمة انئذاك،
ثم انتهج سياسات الانفتاح العشوائي، اي سياسة السوق الحرّة، التي ساهمت في اتساع
فجوة الفقر بين الحاكمين والمحكومين، وضاعفت من معدلاته، وزادت من إعداد الفقراء
والمهمشين سياسياًوإقتصادياً واجتماعياً، ولذر الرماد في عيون المجتمع واستغلال
البسطاء من الناس، عبر المغالاة في مظاهر الدين، دون التزام حقيقي بجوهر الدين،
وتعاليمه التي تدعوا للتكافل ومحاربة الفقر، بجانب تهميش دور الثقافة والمثقفين،
مما أدى الى انحسار دورالثقافة والمثقفين تأثيرهم في المجتمع، في وقت مارس فيه
النظام سياسات إقصائية تجاه الآخر، بغرض نفيه واستبعاده، وتسطيح الذاكرة الجمعية،
بل سعى حثيثاً لمحوها، عبر بث خطاب ديني مزيف، عبر وسائل الاعلام المقروءة
والمسموعة والمرئية لتقديم صورة نمطية غير حقيقية عن الآخر، عبر رسم صورة مشوهة في
أذهان الشعب، وهنا نذكر، الدعاية السوداء التي بثتها الماكينة الإعلامية، عبر
برنامج في "ساحات الفداء" الذي سعى لتصوير الحرب بأنها حرب مقدسة، وصور
جون قرنق إبان حرب الجنوب التي إنتهت بإنفصاله، بانه متمرد وعميل صهيوني. وكذلك
محاولة ثوار ٢٨ رمضان ألصقها بالأحزاب الطائفية. والشهيد خليل ابراهيم الذي رفع
رأية النضال من اجل المهمشين، قد تم تصويره بأنه متمرد وعميل وعنصري. كل هذه الأساليب مارسها الذي، بغرض شيطنة
المناضلون من اجل الحرية والديمقراطيًة، والعدالة الاجتماعية، في وقت يتظاهر
النظام في الاعلام برغبته في الحوار وتحقيق السلام والاستقرار، لكن من يفهم طبيعة
النظام وعقليته، يفهم تماماً ان كل يقال ويشاع في وسائل الاعلام، ليس الغرض منه،
رغبة حقيقية التوصل الى صيغة اتفاق سلام عادل وشامل، يكفل الحل الجذري لمشكلات
البلاد، بل الغرض منه كما قلنا ذَراً للرماد في العيون وخداعا للراي العام
السوداني. اما في قاعات الحوار يتمسك ممثلي النظام بمواقف يعرفون مسبقاً انها
ستقود الى افشال الحوار، وإن فرضت الظروف الدولية على النظام التوصل الى اتفاق
سلام مع احد الأطراف الحاملة للسلاح، اذ سرعان ما يعمل النظام لإجهاض ذلك الاتفاق
بعدم التزامه بنصوص الاتفاق الموقع، والتعامل مع الطرف المعني بالاتفاق، بطريقة
غير مسؤولة، بغرض الاهانة والاستهتار وعدم الاحترام. والشواهد كثيرة في هذا الصدد،
منها الممارسات التي تمت ضد الحركة الشعبية قطاع الشمال، مما دفعها للعودة للغابة،
بعد انفصال الجنوب، وكذلك حركة تحرير تحرير السودان بقيادة مني اركو مناوي التي
رفعت السلاح مجدداً بعد توقيعها اتفاق أبوجا وغيرها الكثير. لكن هذا الواقع الذي نحياه ونعيشه كل يوم ليس
قدراً محتوماً علينا لا يمكن الفكاك منه، بل ربما كان الخلاص من هذا الواقع هو
السبيل الوحيد للإنطلاق نحو بناء وصياغة مستقبل يليق بِنَا وبأجيالنا القادمة. وقد سبقتنا على هذا الطريق دول وشعوب ومجتمعات
إستطاعت أن تتجاوز واقعها المؤلم وتواجه التحديات التي كانت مفروضة عليها وتبني
دولها ومجتمعاتها الحديثة. وربما كان علينا ان نتطلع ألى تجارب الآخرين ونتعلم من
أنجازاتهم، فمثل هذه الخبرات ملك للبشرية جمعاء. وأمامنا تجربة الهند التي يعيش على ارضها خليط
غير متجانس من الأعراق والديانات والانتماءات الاثنية المختلفة، إلا أنها إستطاعت
ومنذ استقلالها في أواخر أربعينات القرن الماضي ان تقيم تجربة فريدة ومتميزة في
الديمقراطية، لأنها إستندت ألى المواطنة بإعتبارها القيمة السياسية والاجتماعية
التي تشكل حجر الزاوية في بناء الدولة الديمقراطية الحديثة، وإذا كانت الهند لم
تزل تواجه مشاكل الفقر والبطالة، إلا أنها أصبحت واحدة من التجارب الديمقراطية
التي يدرسها طلاب العلوم السياسية، من حيث كونها نموذجاً فريداً ومتميزا. في
التعايش بين أبناء المجتمع الواحد رغم إتساع حجم وكم الاختلافات بينهم، بعدما نجحت
في ان تجعل من المواطنة قيمة أساسية راسخة في الوجدان الجمعي، فلم يُجد الشعب
الهندي وأغلبيته الساحقة تنتمي الى أديان غير سماوية اي غضاضة في ان يحكمه رئيس
مسلم، بكل ما يتضمنه ذلك من دلالات إيجابية لمعنى ومفهوم المواطنة. وهناك التجربة الماليزية التي نجحت في بناء
الدولة الحديثة القائمة على مبدأ المواطنة المستندة على الديمقراطية. وفي قارتنا
ماما افريكا هناك تجربة جنوب افريقيا، التي كان يحكمها البيض، ورواندا التي كانت
يحكمهاالتوتسي، وإثيوبيا التي كانت تحكمها قومية الامهرا، لكن حينما إنتهت هيمنة
الأقليات هناك، حدث التحول والانطلاق، في كل من جنوب افريقيا، ورواندا، وإثيوبيا.
استعراضنا للتجارب الناجحة لشعوب العالم، في كل من أسيا وإفريقيا، نود ان نؤكد أن
الواقع الذي تعانيه الأغلبية من الشعب السوداني ليس قدراً محتوماً، فإن خبرات
الشعوب تعد ملهماً لنا علينا للإستفادة منها في مواجهة العقبات والعراقيل التي
تعترض طريقنا نحو بناء دولة المواطنة الحديثة لصالح الأغلبية المهمشة منذ استقلال
السودان وحتى كتابة هذا المقال. لذا لا تقبلوا بإنصاف الحلول، او الوقوف في منتصف
الطريق. تباً للظالمين، وعاشت دولة الاغلبية المهمشة
0 comments:
إرسال تعليق