لاشك أن إفادات الدكتور حسن الترابي رفعت من درجة حرارة المشهد السياسي السوداني المُلتهب أصلاً، ومن المتوقع أن يكون لها ما بعدها، ليس رجماً بالغيب ولكن ذلك ما بدا أن الراحل قد خطط له فعلاً بكل الدهاء السياسي الذي عُرف به. فهو يعلم أن عُصبته سواءٌ الذين شقوا عصا الطاعة أو الذين ظلَّوا إلى جانبه، تعلَّموا منه كيف يفهمون حتى العبارات المُبهمة التي ينطِق بها ممزوجةً بتلك الضحكة المحيَّرة لسامعها والمُدهشة لناظِرها. تعلَّموا منه ماذا يريد من ضحيته حينما يكِر البصر مرتين دون أن ينبس ببنت شفة. تعلموا منه كيف يُرهق جليسه بالطلاسم والألغاز والأحاجي حتى ينال منه التعب فيغادره خالي الوفاض دون أن ينال وطراً. ولذا فإن ما أدلى ويُدلي به الآن من قبره، لن يستطيع حاذق أن يسبر غوره في مقال واحد أو حتى كتاب واحد، ما لم يجعل من نفسه كوكتيلاً للمعارف الصحافية والسياسية والحقوقية والنفسانية والاجتماعية غض النظر عن ميكافيليته المعروفة. وإن شئت ابتساراً فظواهر الأشياء تقول إن ثمة رجل نهض بحركة تنظيمية على كتفيه زهاء نصف قرن، ثمَّ قرر في لحظة تعاقد بينه وبين ملك الموت أن يهدم المعبد على ساكنيه، لا لكي لا ينعموا بإرثه فحسب، ولكن ليستحثهم على اللحاق به بأعجل ما تيسر، ومن ثمَّ يرقد في قبره بهدوء!
(2)
بغض النظر عن مناحي
الاتفاق أو الاختلاف مع أطروحات الدكتور حسن عبد الله الترابي، فهو يُعد من أكثر
السياسيين السودانيين إثارة للجدل، وليس أدل على زعمنا هذا من تتابع هذه الإثارة
حتى بعد رحيله إلى الدار الآخرة، يُخيل للمرء أحياناً كأنه خطط أن تتواصل حياته
وهو في لحده على ذات النمط الذي عاش به دنياه. ومع ذلك تظل الإفادات التي أدلى بها
في الحلقات الفائتة عبارة عن رأس جبل الجليد الذي لم تظهر قاعدته بعد، والذي
يُنتظر حين يذوب برحيل النظام أن يغرق الساحة بأسرار يشيب لها الولدان. أي ليس
منظوراً أن تجد حظها في سياق كشف المستور الذي سيدلي به الترابي في الحلقات
القادمة، وذلك نظراً لضخامتها وحساسيتها وخطورتها، وبخاصة جرائم الدم الجنائية
التي لا تسقط بتقادم الأزمنة. والغريب في الأمر أنه مع يقين البعض أن ذلك لن يحدث،
اشرأبت أعناق توجساً وطأطأت أخرى رؤوسها انكساراً، وبدا أن كليهما يريدان التأكد
من أن شرور الوسواس الخناس لن تصيبهم بسهامها المسمومة، ولا غرو بعدئذ أن طمحا في
براءة بعد موت الرجل بعد أن عزّ عليهما اقتلاعها منه وهو على قيد الحياة!
(3)
صحيح أن الدهشة أصبحت
سيدة الموقف، على الرغم أن بعض ما ذكره الترابي من إفادات سبق وأن أدلى بها في
مواقع متفرقة، لكن لعل الاهتمام مصدره أن شهادته هذه المرة استلفتت أنظار جهات
إقليمية ودولية بتوابع عليهما بعد أن كانت في السابق تسبح في بحور المحلية. بيد
أنني لم أكن في زمرة المندهشين لسبب يعرفه الذين قرأوا كتابنا الموسوم بعنوان
(الخندق/ أسرار دولة الفساد والاستبداد في السودان) والذي صدر في القاهرة في العام
2012 أي قبل أربعة سنوات من الآن، والذي كشفنا فيه أسرار محاولة الاغتيال الفاشلة
التي تعرض لها الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك في يونيو1995 بتفاصيل أكثر
مما ذكره الترابي، وسردنا فيها التداعيات التي رمت بظلالها على الساحة السياسية
بشكل عام والعصبة الحاكمة بشكل خاص (أنظر الراكوبة/ الرابط أدناه) وبالطبع لم أكن
في حاجة ليثبت الترابي مصداقية مصادري من قبره، لكن قبل أن يخرج علينا (ترابي)
ثانٍ ليؤكد صحة ما جاء في كتابنا الآخر الذي صدر مطلع هذا العام 2016 بعنوان (بيت
العنكبوت/ أسرار الجهاز السري للحركة الإسلاموية السودانية) نقتبس منه احدى روايات
القتل الفظيعة، لا لمعارض للنظام ولكن لكادر من التنظيم نفسه، حيث تغلبت الأيديولوجيا
على وشائج الإخوة والإنسانية ورابطة الدم. أما نحن الذين لا نفرق بين دم ودم وإن
تباينت الإنتماءات السياسية، فنوردها لأنها تمثل إحدى التطبيقات العملية لما نطق
به علي عثمان محمد طه نظرياً في التصفيات الجسدية التي وردت على لسان دكتور
الترابي!
(4)
إذا لم تكُن من رُوَّاد
مُشاهدة أفلام “فانتازيا الخيال”، فمِن الوارد جداً أن تستعصي عليك متابعة هذه
القصَّة المُوغلة في الدراما.. فالجريمة التي حدثت يوم 24/5/2001 بدمٍ بارد، لم
تتم في الظلام أو في مكانٍ خفي، بل في حوالي الساعة السادسة مساءً والناس غادُون
ورائحون، وأمام طفلته الصغيرة وزوجته، وغادروا بعدها مسرح الجريمة ورهطٌ من
المُواطنين، الذين حدثت أمامهم وقفوا كأنَّما على رُؤوسهم الطير، وهُم يشهدون
حدثاً طالما رأوه في السينما. ولعلَّ الدهشة تزايدت آنذاك، وهُم يرونهم بعد أن
أنجزوا المُهمَّة على أبشع وجه، لم يكتفوا بما سبَّبوه لزوجته وطفلته من هلع وجزع
وآلام.. بل قاموا بانتزاعهما من العربة غصباً، وامتطوها وولَّوا أدبارهم، لكأنهم
أدَّوا مُهمَّة تنزَّلت عليهم من السَّماء. وتركوا الضحيَّة يسبح في بركة من دمائه!
في خلفيَّة الحدث، كانت
قد صدرت أوامر من رئاسة جهاز الأمن لثلاثة من الكوادر المُنتخبة بعناية، وهُم:
“هاشم عوض النور الحسن”، “أحمد عبدالقادر ساتي” و“عوض عابدين العوض”. ويبدو أنهم
قدَّروا أن المُهمَّة التي هُم بصدد تنفيذها تحتاج إلى أكثر من عددهم المذكور،
فدلفوا على أحد مراكز جهاز الأمن في مدينة الخُرطوم بحري، واصطحبوا معهم أربعة
آخرين، بدعوى أن لديهم مهمَّة رسميَّة، وهُم: “خالد إسماعيل آدم”، “عبدالله
تركاش”، “الرشيد بابكر” و“تاج الدين مصطفى”، واتَّجهوا جميعاً صوب منزل المهندس
“علي أحمد البشير” الكائن في ضاحية “الدُرُوشاب”، فوجدوه خارجاً من المنزل بصُحبة
زوجته وطفلته على متن سيَّارة “دبُل كبين” ولم يبتعد كثيراً، فقد كان على موعدٍ مع
ابن عمِّه في حي “الصافية” بالخرطوم بحري.. قامت المجموعة بمطاردته كما في أفلام
الإثارة، إلى أن قطعوا عليه الطريق، فتوقف في شارعٍ جانبي من شوارع ضاحية
“الدروشاب”!
اتجه نحوه ثلاثي كوادر الأمن
المذكورين أعلاه، هاشم عوض النور الحسن، أحمد عبدالقادر ساتي وعوض وعابدين العوض..
لكن ما حدث كان لا بُدَّ أن يستلفت أنظار السابلة بدوافع حُبِّ الاستطلاع، فبدأوا
في التجمهُر وكانوا في حُدود 16- 20 شخصاً، إلَّا أن ثلاثي الأمن صرفوهم بالعبارة
المألوفة “نحن حكومة”، وهي العبارة التي تعني أن تفعل ما تشاء، وتجعل كل من يسمعها
ينأى بنفسه إيثاراً للسلامة، سيَّما وأن قائلها آنذاك كان يحمل سلاحاً يُلوِّح به
في الهواء. ثمَّ قاموا بعدئذٍ بإنزال المُطارد “علي أحمد البشير”، وشرع على الفور
كل من “أحمد ساتي” و“عوض عابدين” في ضربه وركله وصفعه كيفما اتفق، واقتادوه لنحو
عشر أمتار دون مقاومة منه، وهُنا قام الثالث، وهو “هاشم عوض الحسن” بوضع المسدس
خلف أذنه اليُسرى بوضع مستقيم وأطلق عليه النار، مِمَّا أدَّى إلى تهشُّم جُزء من
الرأس، وبعدها غادروا المكان بكُلِّ هُدوء وطمأنينة، لكأنهم أدَّوا صلاة في معبد!
حُملت الجثة للمُستشفى،
وقد ذكر التقرير الطبي بعد تشريحها التفاصيل التالية: «توجد فتحة بيضاوية الشكل
خلف أسفل الأذن اليسرى مباشرة، ويبلغ طولها حوالي ثلاثة سنتيمتر وعرضها واحد
سنتيمتر، محاطة بهالة كربونية سوداء وطوق سجحي عبارة عن مدخل طلق ناري. توجد فتحة
أخرى بالجمجمة من الخلف في منطقة التقاء عظمتي الجنب مع عظمة مؤخرة الجمجمة، وهي
غير منتظمة الشكل وحوافها مشرشرة ومتجهة إلى الخارج. هناك أجزاء من المخ خارجة
ومنتشرة خلال المخرج، قطره 4×2 وأن أسباب الوفاة تهشم الجمجمة وتناثر المخ والنزيف
الحاد الشديد بواسطة طلق ناري من مسافة قريبة جداً».
لعلَّ السُؤال المُختصر
الذي يتبادر لذهن أي قارئ فور قراءته تفاصيل هذه الجريمة البشعة.. لماذا؟!
إن السيرة الذاتيَّة المُختصرة للمغدور تقول إنه تخرَّج في “جامعة السُّودان”،
كليَّة الهندسة الميكانيكيَّة، وشارك بفاعليَّة في تنفيذ الانقلاب عام 1989، ثمَّ
تمَّ تأهليه تأهيلاً كبيراً في مجال العمل الإستخباري والعسكري والتقني.. «أول من
حمل جهاز كمبيوتر في تاريخ القوَّات المُسلَّحة أثناء حرب الجنوب، وكان يُرسل به
إشاراتٍ من مناطق العمليَّات إلى رئاسة وزارة الدفاع في الخرطوم».. تدرَّب على
قيادة الدبابات T-55 وM-60، بالإضافة إلى
استخدام الأسلحة الخفيفة والثقيلة.. عمل في سفارة السُّودان بدولة تشاد، حيث أدار
العمل الإستخباري في منطقة غرب أفريقيا وحوض النيل.. من أكبر المهام التي كُلف بها
كان التحرِّي والتحقيق في محاولة اغتيال الرئيس المصري حُسني مبارك، فامتلك
معلوماتٍ ضخمة عن الموضوع ومُلابساته.. كان أن عاد إلى الخرطوم واستقال من تلك
المهنة بعد “المُفاصلة” بين الإسلامويين، حيث انضمَّ لمجموعة الدكتور حسن الترابي
“المؤتمر الشعبي”.
ابتدرت شُرطة ولاية
الخرطوم الأكاذيب من قبل أن يجف دم القتيل، حيث أصدرت في اليوم التالي بياناً قالت
فيه إنه: «قُتِلَ لمُجرَّد اشتباه في السيارة التي كان يقودها، وأنه رفض الإذعان
للشرطة وقاومها فانطلقت رصاصة أردته قتيلاً».. إلَّا أن أسرته ردَّت ببيان، قالت
فيه: «إنه لم يكن يحمل سلاحاً، وإلا فلتقدم الشرطة السلاح الذي ادَّعت أن الشهيد
كان يحمله وقاوم به» (أنظر الشرق الأوسط 30/5/2001).
بعد أن اتخذت القضيَّة
منحىً قضائياً، حدث مشهد أكمل الكيفيَّة التي تدير بها العُصبة البلاد. فقد بدأت
التهديدات تترى على الشاهد الأساسي في القضيَّة، وهو: “تاج الدين بانقا مُحمَّد
أحمد”، (مدير مكتب دكتور حسن التُرابي حتى رحيله)، وكان أقرب المُقرَّبين من
المغدور. وعندما لم تجد التهديدات الصريحة فتيلاً، دخل أفرادٌ من جهاز الأمن أثناء
مداولات القضيَّة، واقتادوا الشاهد “بانقا” من المحكمة، إلى مكاتب جهاز الأمن
العام بالخرطوم ‘2’، جوار مقابر فاروق، والأدهى أن ذلك حدث على مرأى ومسمع من
القاضي الذي عَجِزَ عن منعهم!
لقد بات جلياً أن سبب
القتل الرئيسي كان امتلاك الضحيَّة معلوماتٍ ضخمة أثناء رئاسته لجنة التحقيق في
قضيَّة الرئيس المِصري حُسني مبارك. وهُنا نستدعي لذوي الألباب من الذاكرة ما سَبَق
ذِكره، من أنها الجريمة التي كان عرَّابها الأوَّل، هُو السيد “علي عثمان محمد
طه”، بمُشاركة آخرين، أبرزهم: دكتور “نافع علي نافع”، دكتور “عوض أحمد الجاز”،
“صلاح عبدالله قوش”، “مُطرف صدِّيق”، “أسامة عبدالله” وآخرين. وكنتاج طبيعي في
أجندة الإسلامويين الباطنيَّة، بدأت حملة التصفيات الجسديَّة بطريقة دراماتيكيَّة
لبعض الكوادر الصغيرة التي شاركت مع المُنفذين المصرين مباشرة بعد فشل عملية
الاغتيال، وذلك خشية أن يفشوا بالأسرار. والجدير بالذكر أن بعضُهُم كان قد هرب
بطُرُق مُختلفة وعاد أدراجه إلى السُّودان!
طُبِّق السيناريو أوَّلاً
مع “ياسر عبدالله عبدالحفيظ”، الذي طُلب من صديقه “الطيِّب محمَّد عبدالرحيم” أن
يغتاله في مكانٍ خلوي بطريق “الخرطوم – جبل الأولياء”، وبمجرَّد أن نفذ المُخطط
الإجرامي، ألقوا عليه القبض بتُهمة القتل، وقُدِّم لمُحكمة حكمت عليه بالإعدام،
ونُفِّذ فيه رغم الوعود البرَّاقة من عُصبة الأمن بأنه لن يُنفذ.
إلى جانب هؤلاء، تمَّت
تصفية رجُل مُسن لم يشفع له كِبَرُه، وهُو من ولاية نهر النيل، ومن مُؤسِّسي
الحركة الإسلاميَّة في منطقته، اسمه “إسماعيل” ويُلقب بـ“زرديَّه”، تمَّت تصفيته
بحُقنة سامَّة أسلم بعدها الرُوح. والجدير بالذكر أيضاً، أن شخصين قُتِلا في أديس
أبابا، هُما دكتور “عبدالله الجعلي” و“محمَّد الفاتح يوسف”، وذلك بمجرَّد فشل
العمليَّة، لأنهما كانا على علم بالتخطيط، وهُما يعملان تستراً في الوكالة
الإسلاميَّة للإغاثة في العاصمة الأثيوبيَّة.. عموماً، فقد استثارت عمليَّة أديس
أبابا شهوة القتل في نُفُوس العُصبة ذوي البأس!
ليس كُلَّ ذلك ما حدث،
فما يزال في الكأس باقٍ.. فقد عمدوا إلى إجراءاتٍ أخرى، منها ما أدَّى إلى نتائح
عكسيَّة، مثل التنقلات التي جرت لكوادر عُليا في جهاز الأمن، إذ تمَّ إبعاد “د.
نافع علي نافع” من رئاسة جهاز الأمن الخارجي إلى وزارة الزراعة، وحلَّ محله اللواء
أحمد مُصطفى الدَّابي، كما تمَّ إبعاد “المُقدَّم صلاح عبدالله قوش” من إدارة
العمليات بجهاز الأمن الداخلي إلى هيئة التصنيع الحربي.. أما “د. مُطرف صدِّيق”
فحُوِّل من نائب مدير جهاز الأمن الخارجي إلى مستشاريَّة السلام، وتمَّ إبعاد “نصر
الدين محمَّد أحمد” من مدير إدارة العمليات الخاصة بجهاز الأمن الخارجي إلى ملحقٍ
أمني بسفارة السُّودان بالقاهرة، و“اللواء حسب الله” من الإدارة الأوروبيَّة
والأمريكتين إلى سفارة السُّودان بباريس. ومن المُفارقات، أن عُصبة النظام الحاكم
أقدمت على هذه الخُطوة من أجل التمويه، لكن انطبق عليه المثل القائل: “كاد المريب
أن يقول خذوني”!
ظلَّت عُصبة “القصر”
برئاسة علي عثمان طه تُلاحق المغدور المُنتمي لمُعسكر “المنشيَّة” بإغراءاتٍ كثيرة
لكي يعود للعمل معهم في جهاز الأمن، ليس لأنه تميَّز بملكاتٍ تدريبيَّة عالية –
كما ذكرنا – ولكن لأنهم يعلمون أنه امتلك قدراً كبيراً من المعلومات في قضيَّة
محاولة اغتيال الرئيس المصري حُسني مُبارك، وهي المعلومات المُنذرة بتدحرُج رُؤوسٍ
كثيرة. من ضمن هذه الإغراءات، تقول مصادر مُطَّلعة، إن “الفريق صلاح عبدالله قوش”
قدَّم له عرضاً قبل اغتياله بنحو عشرة أيام، وفحواه أن يعود للعمل معهم ويختار
الرُتبة الأمنيَّة التي يريدها، ولكنه رفض الأمر. ولم نستطع أن نتبيَّن إن كان
الرَّفض مبني على أسبابٍ شخصيَّة بحتة، أم أسباب تنظيميَّة، أو من الاثنين معاً!
بالرغم من التهديدات التي
وُجِّهت للشاهد الأساسي “تاج الدين بانقا” – كما ذكرنا أعلاه – مضت القضيَّة في
ذات إطار التقاضي. كانت دُفوعات جهاز الأمن قد تذرَّعت وتمحورت في العربة، بدعوى
أن المغدور فرَّ هارباً منهم.. بالرغم من أن الشُهود دحضوا ذلك، إلَّا أن المنطق
يقول إنه لا هذا ولا ذاك يمكن أن يرقيا إلى مقتل إنسان.. بَيْدَ أن الأسرة أكَّدت
إن العربة ملك الضحيَّة، وأنه اشتراها من ماله الخاص، واستدلت بصيانته لها ووجودها
بحوزته لأكثر من عام. وكانت الأسرة قد قدَّمت لمُحاميها مستنداتٍ تُثبت ملكيَّته
للعربة، وبموجب هذه المستندات قضت المحكمة بإرجاعها لها بعد المحاكمة.
من جهة ثانية، تواصلت
الإغراءات لأسرته أثناء المُحاكمة أيضاً. منها إغراء “الفريق صلاح قوش” أيضاً
لوالد الضحيَّة بمنحه – أي الفقيد – رُتبة أمنيَّة كبيرة، وبناء عمارة من ثلاثة
طوابق لأسرته، وعطيَّة تبلغ ثلاثة مليارات جنيه. ولكن الوالد رفض، وجدَّد الرَّفض
أيضاً بعد زيادة المبلغ وبناء مسجد له ابتزازا للمشاعر الدينية! وذلك بحُجَّة أن
القصاص لن يفيد، كما كان يُردِّد له قوش!
حكمت المحكمة على المتهم
“هاشم عوض النور الحسن” بالإعدام شنقاً حتى الموت، ولكنه استأنف، فحُوِّل إلى سجن
كوبر. ثمَّ أخرجه الجهاز من السِّجن، وهو قاب قوسين أو أدنى من الإعدام، بدعوى أن
محكمة الاستئناف ألغت الحُكم وبرَّأته. علماً بأن مُقدِّمات تلك البراءة لم تظهر
في مُداولات القضيَّة التي سردناها، ولكنها تجسدت اثناء وجود المُتهم في سجن كوبر،
فبالرغم من أنه أُودع قسم (الشرقيات) المُخصَّص للمحكوم عليهم بالإعدام، والذين
يُفترض تقييدهم بالسلاسل، ولا ينبغي أن يُغادروا القسم مطلقاً، إلا أن المتهم
“هاشم عوض النور الحسن” كان طليقاً يتمتع بحريَّة الحركة، وبدون أي سلاسل تقيِّده،
ومسموحٌ له أن يتحرَّك كيفما شاء.. فلا غُرُوَّ بعد البراءة أن عاد إلى العمل في
الجهاز، وما يزال يرتقي مدارجه كأنَّ شيئاً لم يكُن!
ولم يبق من الجريمة أثر
سوى أن طفلة المغدور التي كانت في الثالثة من عمرها حين اغتيل والدها أمام
ناظريها، أصابها الحادث بمشاكل في السمع والنطق، تتابع معها حتى الآن وهي في العقد
الثاني من عمرها!!
§ المصدر
: بيت العنكبوت أسرار الجهاز السري للحركة الإسلاموية السودانية ص 178-182
0 comments:
إرسال تعليق