مقال من الارشيف 2005 ذو صلة بالراهن السياسي/الاثنين 28 نوفمبر 2005
ليس من شك في أن التعدديات العرقية والثقافية والدينية هي من حقائق السودان الكبرى، وهي إحدى السمات المائزة للنسيج الاجتماعي السوداني، ولا أود هنا الخوض في تفصيلات هذا النسيج، وكيف تكون عبر التاريخ. ما يهمني هنا هو شأن هذه التعدديات ووضعيتها في الدولة السودانية الحديثة.
تقييماً لتجربة خمسين عاماً هي عمر الاستقلال، واستناداً إلى معطيات الحاضر أستطيع أن أقول أن كل أنظمة الحكم التي تداولت السلطة في السودان، وبلا استثناء، قد فشلت فشلا كبيراً في انتهاج نظامٍ للحكم والإدارة يقود إلى بناء دولة وطنية تعتمد المواطنة أساساً للحق والواجب، وديموقراطية تتمثل فكرة التنوع الثقافي والتعدد الديني. وأهم أسباب هذا الفشل في تقديري تعود إلى أن مؤسسة الدولة نفسها، ومنذ فجر الاستقلال، قد تم اختطافها واعتساف الحكم فيها من قبل الجماعة العربية الإسلامية في السودان (أهل الوسط والشمال النيلي). لقد تم ذلك وفق أيديولوجية وصائية متشددة تفترض ابتداءً أن الشعوب السودانية الإفريقية تعاني هشاشة في بنياتها الثقافية، وهي قاصرة عن إدراك مصالحها، وبالتالي عاجزة عن تحمل أعباء الحكم أصالةً. من ناحية أخرى، تفترض الجماعة العربية الإسلامية وفي إطار سعيها المحموم لتكريس سلطتها، حتمية الصدام بينها وبين الشعوب السودانية الإفريقية في مدى زمني مقدر بتوفر الظروف المواتية لنهضة تلك الشعوب وتبدل أحوالها. سيطرت هذه الذهنية المسكونة بالشكوك والمخاوف وأوهام التآمر على كل أنظمة الحكم بعد خروج المستعمر وظلت مصدراً لسلوك كافة مراكز صنع القرار تجاه الشعوب السودانية الإفريقية.
تُعتبر الجماعة العربية الإسلامية في السودان وبحكم أجندتها السلطوية النازعة دوماً نحو الهيمنة والاستعلاء من مهددات بقاء السودان كدولة موحدة في المستقبل المنظور ما لم تتخل عن أجندتها تلك؛ وهي بسبب من ذلك تتحمل الجانب الأكبر من وزر حالة التداعي الأمني والسياسي التي يشهدها السودان اليوم برغم توقيع اتفاقية السلام ببروتوكولاتها الست في التاسع من يناير من هذا العام بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان بنيروبي. وهي أيضاً مسئولة عن بعض الشروخ والتصدعات الاجتماعية التي تؤثر سلباً في عمليات التعايش والتدامج بينها وبين الشعوب السودانية الإفريقية.
صحيح أن رأس الرمح في إنتاج أيديولوجيا الهيمنة هذه هو التيار السلطوي الحاكم، والإنتلجنسيا من أهل الفكر والثقافة في الجماعة العربية الإسلامية، غير أن الصحيح أيضاً هو أن القواعد الشعبية غير المتنفذة في هذه الجماعة ليست مبرأة من هذه التهمة. فمعظم المنتمين إلى منظومة الثقافة العربية الإسلامية من أهل الوسط والشمال النيلي متواطئون بشكل أو آخر مع هذه الإيديولوجية، وذلك بممارسة الصمت حيالها تارة والدفاع عنها تارات أُخر. فهذه الأيديولوجيا، مقارنة بغيرها من الأطروحات التي يمكن أن تضيق عليهم، توفر لهم من الناحية العملية فرصاً أفضل وأوسع في الصعود والترقي الاجتماعي والاقتصادي والثقافي وذلك على حساب غيرهم من مواطنيهم. فأطروحة السودان الجديد على سبيل المثال تنادي بقيم مغيبة عمداً أهمها: العدالة والمساواة والحرية، وتنادي بديموقراطيةٍ تتخذ من التعددية الثقافية للمجتمع السوداني مرجعية لها، واللامركزية شكلاً للحكم والمواطنة، لا الدين أساساً للحق والواجب في الدولة، وتنادي أيضاً بقسمة متوازنة للسلطة وتوزيع عادل للثروة. هذه القيم والأسس الجديدة لا يمكن أن تكون مقبولة لدى من وقعت لهم إمتيازات تاريخيه باسم انتمائهم للثقافة العربية الإسلامية، وخرافة اعتقادهم بسمو أنسابهم التي تميزهم عن غيرهم من خلق الله من السودانيين.
إن أساس هذه الهيمنة التي تمارسها الجماعة العربية الإسلامية في السودان (أهل الوسط والشمال النيلي) ما هي إلا منظومة أحكام كسحاء كثيراً منها يطرح في مجالسالجماعة الخاصة، وقليل منها يَتَفلَّتُ في حواراتهم الهادئة مع الآخرين. وإن شئنا الدقة أكثر فإن هذه الأحكام هي في حقيقتها فرضيات ذرائعية لم تثبت صحتها حتى اليوم، وهي تهدف في الأصل إلى اكتساب السلطة وتقوية النفوذ وضمان استمراريته. لا نقول هذا تجنياً أو تخرصاً، وإنما هذا كلام له ما يسنده في الواقع المشهود، وسنسوق فيما يأتي أهم هذه الفرضيات الذرائعية مقرونة بأدلة إفنادها:
1/ إن السودان بلد "عربي إسلامي"، لقد تم إيداع هذه الفرضية الدستور المؤقت للسودان 1956م، إذ جاء في المادة الخامسة من الفصل الأول، الدولة السودانية: "أن لغة الدولة الرسمية هي اللغة العربية ودينها الرسمي الإسلام". وتم تثبيت هذه الفرضية أيضاً في دستور السودان (المقترح) لسنة 1958 في المادة الخامسة من الفصل الأول. وأورد مشروع دستور السودان 1968م في المادة الثالثة من الباب الأول ذات الفرضية. أما الدستور الدائم لجمهورية السودان لسنة 1973م فقد جاء في المادة التاسعة من الباب الأول، السيادة والدولة: "الشريعة والعرف مصدران رئيسان للتشريع، والأحوال الشخصية لغير المسلمين يحكمها القانون الخاص بهم"، وجاء في المادة العاشرة : "اللغة الرسمية للبلاد هي اللغة
العربية ". (1)
لسنا ضد العروبة "لغةً أو ثقافةً"، ولسنا من المتحاملين على الإسلام كدين سماوي سمح، غير إنا فقط نتساءل كما يتساءل الكثيرون من أبناء الشعب السوداني: أين هي حقوق الملايين الذين يتحدثون ويتمثلون اللغات والثقافات السودانية الإفريقية؟ ولماذا لم ترد نصوص واضحة وصريحة في كل دساتير السودان في شأن حقوق هذه اللغات والثقافات؟ ولماذا تتناقض دائماً طائفة من القوانين المنظمة، وعمل بعض أجهزة الدولة، وسلوكيات بعض المسؤولين فيها مع بعض القواعد والمبادئ الدستورية العامة التي كفلت حقوقاً وحريات أساسية للمسيحيين وأصحاب كريم المعتقدات الروحية الإفريقية دونما تمييز بينهم ومواطنيهم المسلمين؟ أهو استغفال وخداع للناس، أم أن ما تكفله المبادئ الدستورية جملة تعود وتسلبه القوانين المنظمة وبعض أجهزة الدولة تفصيلاً؟
2/ إن العناصر المكونة للجماعة العربية الإسلامية في الوسط والشمال هي القيّمة والحامية للغة والثقافة العربية، والدين الإسلامي في السودان، وهي بذلك مدعوة للإمساك بزمام الأمور في البلاد.
3/ إن العنصر السوداني الإفريقي تعوزه الجدارة والأهلية الكافية لتولي أعباء الحكم، فهو غير أمين على اللغة والثقافة العربية، والدين الإسلامي كونه جماع قوى تآمريه تعمل على استئصال الثقافة العربية الإسلامية من المجتمع. كما أن هذه الفرضية تستبطن قيماً سلبية دائماً ما يدمغ بها العنصر السوداني الإفريقي، وهي وضاعة الأصل والقابلية للاسترقاق (عبيد)، فضلاً عن طلاقة الغرائز والمشاعة والجهل والخفة والطيش وكثرة الطرب، وذلك استدعاءً لكل الصفات الدونية التي تغص بها كتب ومدونات المفكرين والجغرافيين (الرحالة) والمؤرخين العرب المسلمين في حق الجنس الأسود.(2) إن قاموس العامية لدى الجماعة العربية الإسلامية في السودان (أهل الوسط والشمال النيلي)، وتراثهم الأدبي الشفاهي منه والمكتوب على كل ذلك لشهيد. أنظر على سبيل المثال إلى قصيدة الشاعر محمد المهدي المجذوب "انطلاق"(3) التي يختزل فيها العديد من الصفات السلبية في الزنوج:
وأرضاني الجنوب فما أُبالى
بمن يصم العُراةَ ومن يلوم
هُمُ عَشِقُوا الحياةَ فعاشَرَتْهم
كما تبغى المشاعرُ لا الحلومُ
فليْتِىَ فى الزُّنوج ولى رَبَابٌ
تَميلُ به خُطَاىَ وتَسْتَقِيم
أُجمِّشُّه فيُجْفِل وهو يشْكوُ
كما يَشْكو من الحُمَةِ السَّلِيمُ
وفي حَقْوَىِّ من خَرَزٍ حِزامُ
وفي صُدْغَىِّ من وَدَعٍ نَظِيمُ
وأَجترعُ المريسةَ في الحَوانِى
وأَهذِرُ لا أُلامُ ولا أَلومُ
طليقُ لا تُقيِّدنى قريشُ
بأحسابِ الكرام ولا تميمُ
وأُصْرَعُ في الطريقِ وفي عيونى
ضبابُ السُّكْرِ والطَّرَبُ الغَشُومُ
ولى شَرَفُ .. وما جَدْوى صِيَاحِى
بِفَخْرٍ ليس يَشْربُه النديم
برغم أن ن ظاهر الأننننننننننسييسي
أن ظاهر هذه الأبيات يفيد المدح والرضى إلا أن باطنها مذمة تعتمل فيها روح كِبر وزراية، ونظرة سلبية فيها تحامل كبير على الزنج. فالشاعر يعبر عن رضاه عن الجنوب وثقافته الزنجية، وأنه لا يأبهللثقافة العربية الإسلامية التي تصم أهله بالتخلف وتلومهم عليه. غير إنه يأتي من بعد ذلك ليذم أهل الجنوب ويصفهم بالعاطفية، نافياًعنهم العقلانية حيث يقول أنهم قد عشقوا الحياة ولامسوها بمشاعرهم، لا حلومهم (عقولهم). وفي تماهٍ زائف يستطرد الشاعر متمنياً لو أن كان في الزنوج الذين تنزع بهم خفتهم إلى الطرب الغشوم لتميل خطاهم وتستقيم على إيقاعات الموسيقى ودندناتها. إذاً، فالزنجي في نظر الشاعر إنسان مهذار غير مسئول تغلب عليه الخفة وتحركه الإيقاعات ولا شيء سواها، فضلاً عن كونه سكير وطليق، لا أخلاق تضبط سلوكه كما في الثقافة العربية الإسلامية، ولا شرف أو أحساب كريمة تقيده كتلك التي لقريش وتميم. وهذه هي عين الصورة الشوهاء التي نجدها في كتب ومدونات التراث العربي الإسلامي.
لم تكن تلك الأبيات فقط إسقاطاً من شاعرية المجذوب (شهوات) التي قيدتها الزواجر الاجتماعية في ثقافته العربية الإسلامية على حد تعبير عبد الله على إبراهيم، بل كانت في أحد أوجهها صدىً لنعرةٍعربيةٍ فيه. من جانب آخر، فإن احتفاء الشاعر اللفظي بأهل الجنوب وثقافتهم الزنجية، علاوة على تعريضه بالثقافة العربية الإسلامية التي ينتمي إليها، إنما هو تعبير عن حالة من الاضطراب والتنازع النفسي سببها عدم رضاه عن واقعه الثقافي الذي يتسم بالغلو والتشدد. وهو في ذلك إنما يُشْبِهرواد الأفروعروبية الذين رأوا في الثقافة الإفريقية مرونةً، أو بالحري انفلاتاً يهيئ مناخاً ملائماً لرغائبجامحة، مكبوتة ومحمولة بين حناياهم. يقول عبد الله علي إبراهيم في ذلك: " فدعاة الأفروعروبية لم يلقوا، وهم في ريعان الشباب من ثقافتهم العربية الإسلامية ما يروي غلتهم من الحب والتعبير، فاضطروا إلى الهرب بأجندة الريعانوالشغف إلى فردوس اأفريقي مطموس في تكوينهم الإثنى، الغرائز فيه طليقة ، والرغائب مستجابة ولأن رحلتهم لم تقم على فهم وتعاطف مع "سجن" الثقافة العربية الإسلامية الذي هربوا منه، أو معرفة بالثقافة الإفريقية التي هربوا إليها، لذا فقد كان حصادها مؤسفا " (4).
هذه الفرضيات متحدة، فضلاً عن يقظة الذاكرة الجمعية لمنتسبي الجماعة العربية الإسلامية في السودان على تجارب سقوط دولة العرب في الأندلس، وخروجهم من زنجبار قد دفعت بهم لإحكام طوق الهيمنة على مقاليد السلطة بالبلاد صيانةً لامتيازات ومكاسب مادية وثقافية واجتماعية وقعت لهم.
استناداً إلى الفرضية الأولى،مارست الجماعة العربية الإسلامية في السلطة قهراً ثقافياً ودينياً تمثل في عملها على حجب هويات الشعوب السودانية الإفريقية، ومحاولة طمسها وفرض رؤيتها الثقافية والدينية عليها، موظفة في ذلك كل إمكانيات الدولة ووسائطها الإعلامية. بالإضافة إلى ذلك فقد استبطنت الجماعة العربية الإسلامية - بدرجات متفاوتة - الدين والانتماء العرقي والثقافي والجهوي معاييراً للحق والواجب في الدولة. وكما أسلفنا فقد تم تضمين هذه الفرضية الكسحاء دساتير السودان المختلفة المؤقت منها والمقترح والدائم؛ وهذه في تقديرنا فكرة فضيلة جداً تنضح استعلاءاً، وفيها تجاسر على الحقيقة ، وتعامى عن فسيفسائية الوضع اللغوي، وتقويض لمبدأ التعددية الثقافية والدينية في المجتمع السوداني. هذا الأمر ليس بغريب على الثقافة العربية الإسلامية في السودان، فهي ثقافة تنزع إلى تمجيد ذاتها في شوفينية بغيضة مقابل تحقير وازدراء بيِّن للثقافات السودانية الإفريقية. إن الموقف الأيديولوجي لهذه الثقافة قد ظل يعكس لنا بثبات واستمرار أيديولوجيا غير متسامحة تعمل في مثابرة على تصفية الآخر بغية الانفراد بمسرح الأحداث. ففي السودان اليوم ما يربو على المائة وعشرين لغة سودانية إفريقية بخلاف اللغة العربية. وهي لغات بكامل المعنى العلمي للعبارة، لها أنظمتها الصوتية والصرفية والنحوية، ولها كذلك كل أسباب الفصاحة والبيان والجمال. وهي ليست لهجات أو رطانات كما تسمى تحقيراً في المعالجات الأيديولوجية للمركز. تأسيساً على ذلك، فإنه يجب أن يكون لهذه اللغات تمثيل دستوري من خلال نصوص واضحة وصريحة، وأن تكفل حقوقها كاملة، وتسن القوانين الحامية لها، والمنظمة لمجالات استخدامها. وهذا أمر لابد من استيفائه حتى يتم لجم السياسات اللغوية والثقافية التي تعمل على حبس رياح التجديد عن اللغات السودانية الإفريقية، وإزاحتها تحت ذريعة الانصهار والتمازج القومي، أو بالحري فتح الفضاءات لما يسمى بالمد العربي.
إن أمر رعاية اللغات السودانية الإفريقية وحفظها من الاندثار يعتبر من أوجب واجبات الدولة ومن صميم مسئولياتها تجاه مواطنيها، ولا ينبغي لها التنصل من هذه المسئولية تحت ذريعة الكلفة المالية العالية لهذا المشروع .. فهي – الدولة – التي تجبي أموال دافعي الأتاوى والضرائب من متحدثي هذه اللغات وتنفقها بسخاء وبذخ على توجهها "التآمري"، وعلى ما هو دون أمر رعاية وتطوير هذه اللغات مما لا يمثل أولوية للمواطن، فضلاً عن صرفها في وسائل قهره ونفيه عن هويته الثقافية. كما أن الحقوق اللغوية والثقافية للمواطنين تعتبر من الحقوق الأساسية التي وردت في الكثير من الصكوك الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، لذلك فإن أمر صيانتها ينبغي أن يكون أولوية متقدمة للدولة. من جانب آخر، فإنه لابد من سياسة لغوية جديدة تمكن اللغات السودانية الإفريقية من الإسهام بفاعلية في التعليم والإدارة والإعلام وكافة شئون الحياة العامة في بيئاتها الجغرافية. وما يعزز هذا الاتجاه هو أن هذه اللغات تحمل الكثير من المعارف والقيم والمعايير الثقافية التي تفتقر إليها اللغة العربية، بالإضافة إلى أن لها مجالات استخدام تعجز اللغة العربية عن تغطيتها والوفاء بمستحقاتها، وهي بالتالي تعتبر تراثاً قومياً وإنسانياً ثراً. إن كل هذا يتطلب توفير التمويل اللازم لها بغية دراستها وتوصيف أوضاعها لسانياً واجتماعياً وتطوير أنظمة لكتابتها.
ومن مظاهر وأشكال القهر الثقافي والديني، وربما الاجتماعي أيضاً تعاطي الجماعة العربية الإسلامية في السودان لمصطلحات غير دقيقة في التعبير مثل أقليات عرقية ودينية بقصد حرمان جماعات بعينها من حقوقها اللغوية والثقافية والدينية. أفهم القول بوجود أقليات دينية برغم تحفظي على استخدام المصطلح وظيفياً لخدمة أغراض أخرى، لكن ما ليس لي قبل بفهمه هو استخدام مصطلح أقليات عرقية ولغوية أو ثقافية توصيفاً لجماعات سودانية. فمن هم برأي هؤلاء الذين يمثلون هذه الأقليات ؟ سياق الكلام يشير دائماً عندما يرد هذا المصطلح إلى سكان السودان الأصليين (the indigenous people of the Sudan). إن كان هذا فعلا ما يعتقدون نرجو منهم أن يفسروا لنا هذا الأمر، وكيف يكون؟ برأينا أنه لا توجد أقليات عرقية أو ثقافية في السودان، وبأي منظور كان القياس. هذا ببساطة لأن السودان جماع لعرقيات وشعوب عديدة لها لغاتها وثقافاتها السودانية الإفريقية بخلاف اللغة والثقافة العربية. فإذا قلنا بوجود أقليات عرقية، فأي عرق في السودان أو شعب يمكن أن يكون معياراً عددياً يقاس به أو يحدد بموجبه أن هذا العرق أو ذاك الشعب يمثل أقلية؟ وإذا قلنا بوجود أقليات لغوية أو ثقافية، فبالنسبة لأي لغة أو ثقافة يكون ذلك؟ خاصة وأن اللغة العربية تعتبر بالنسبة لأكثر أقوام السودان التي تتحدث لغات سودانية إفريقية لغة تفاهم وتواصل (Lingua Franca)، وتعتبر لغة أم بالنسبة لفئة أقل في الوسط والشمال النيلي. وإذا تحدثنا عن مفردات الثقافة العربية في مكوناتها الأخرى كالآداب والفنون وأسلوب العيش ونمط التزيّ وطرائق التفكير، نجد أن نزر قليل منها متمثل في السودان، ونسبة كبيرة من هذا القليل مكتسبة. إذاً، فالثقافة العربية ليست ثقافة أصيلة بالنسبة لمعظم أعراق وأقوام السودان بل هي ثقافة مكتسبة، فضلاً عن أن هناك تفاوتاً كبيراً في درجة تَمثُّل الناس لها، وهي في رأينا تُمَثِّل ثقافة غالبة وليست ثقافة أغلبية، ولذلك فإنه لا ينبغي تأسيس أية أوضاع خاصة لها، أو تمييزها على حساب الثقافات السودانية الإفريقية.
ويدخل في باب القهر الثقافي أيضاً، توظيف التاريخ وتجييره لخدمة مصالح جماعة ثقافية بعينها في بلدٍ تتعدد فيه الشعوب والأعراق، فتاريخ السودان بحالته الراهنة يعتبر تاريخاً زائفاً ومنقوصاً لأن المسكوت عنه فيه كثير، ومن شأنه أن يسود صحائف ومجلدات. والتاريخ كأحد أهم محركات الصراع في السودان قد ظل يكتب وفق منظور أيديولوجي منكفئ على ذاته يمجد شخوصاً وقيماً ثقافية منتقاة بعناية كبيرة، ويعلي من شأن أحداث ووقائع دون الأخرى. فسيرة السودان القديم التي تمتد لأكثر من خمس آلاف سنة في مغارة التاريخ يتم اختزالها في صفحات في مناهج التربية والتعليم البائسة وغيرها من الكتب، بينما يتم تسليط الضوء كثيفاً على فترة دخول العرب إلى السودان وما تلاه. والتاريخ الحديث يذكر باحتفائية كبيرة مهيرة بنت عبود التي اقتصر دورها على بث الحماس وروح القتال في رجال قبيلتها، ويذهل عن الأميرة مندى بنت السلطان عجبنا بن أروجا في جبال النوبة التي حملت السلاح وقاتلت الإنجليز جنباً إلى جنب مع والدها وزوجها، ونفيت إلى شمال السودان بعد ثورة سنة 1917م عقاباً لها بعد إعدام والدها في ملحمة بطولية خالدة. إن النماذج البطولية المشرقة والصفحات المضيئة في تاريخ الشعوب السودانية الإفريقية كثيرة بيد إنا لسنا بصدد الكلام عنها هنا، وإنما سيجيء الحديث عنها في غير هذا المكان.
إن الجماعة العربية الإسلامية في السودان لم تكن في كل ذلك تعمل أصالة عن نفسها فقط، بل أيضاً بالوكالة عن بعض المنظمات والمؤسسات السياسية والثقافية والدينية في العالم العربي الذي دخل في صراع حضاري محتدم على إفريقيا مع العالم الغربي المسيحي. فقد أُنيطت بهذه الجماعة مهمة تعريب وأسلمة الشعوب الإفريقية في السودان وكل إفريقيا من بعد ذلك؛ فهي الجسر – حسب ما يعتقد ويردد عن دورها – بين عالمين جداً مختلفين. ولقد عبر عن هذه الفكرة عبد الله علي إبراهيم كأوضح ما يكون، حيث يقول: "هذا الدور المرسوم للجماعة العربية الإسلامية السودانية قائم على فكرة ثقافية محدودة جداً. فقد أراد العرب والمسلمون بعد تحررهم من سطوة الاستعمار المباشر أن يدخلوا السباق مع النصرانية والأفرنج على كسب إفريقيا إلى ثقافتهم ودينهم وقد تبنوا لهذه الغاية الفكرة الخاطئة التي تستبطن كل تبشير ثقافي، وهى اتهام الجمهور المراد كسبه بخلو الوفاض من الثقافة والدين. وأصبحت إفريقيا ميداناً لصراع مكشوف بين النصرانية والإسلام ".(5)
وإن كانت الجماعة العربية الإسلامية في السودان قد لقيت عنتاً ومشقة في الوفاء بمستحقات مهمتها "الرسالية" أصالةً عن نفسها وإنابةً عن غيرها، فهي على أقل تقدير قد قبضت ثمن ذلك نماءاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً بفضل دعم القْيَّمون على هذا المشروع لها. ولا جدال في أن الخاسر الأكبر في هذه الصفقة كان دائما الشعوب السودانية الإفريقية التي استهدفت بالأذى في لغاتها وثقافاتها وبنياتها الاجتماعية، علاوة على حجب التنمية الاقتصادية عنها، وسلب بعض مواردها. ويؤكد بعض هذا المعنى عبد الله علي إبراهيم الذي يستطرد قائلا: "وقد شقينا في الجماعة العربية الإسلامية السودانية طويلاً وكثيراً من الافتراض الأساسي وراء الدعوة للعربية والإسلام كما رسمها منهج الدعوة القومية الإسلامية، فقد ترتب على استعدادنا للقيام بدورنا المرسوم أن تعاملنا مع الجماعات الإفريقية المساكنة لنا في الوطن السوداني كرجرجة بلا ثقافة ولا دين. فقد اتهمنا لغتهم بالعجمة ودينهم بالوثنية، واتصلت دعوتنا الفكرية المدعومة بإجراءات الدولة الوطنية لكسر المقومات اللغوية والدينية لهذه الجماعات الإفريقية لتستبدل لغتها باللغة الصواب (العربية) والدين بالدين الصحيح (الإسلام). وترتب على هذا الموقف أن نشأ سوء تفاهم أصيل بين الجماعة العربية الإسلامية والجماعات الإفريقية في السودان، وهو سوء التفاهم الذي تفجر في حرب أهلية متصلة ومتقطعة، طوال الثلاثين سنة الأخيرة منذ نيل السودان للحكم الذاتي في 1954م".(6)
وبموجب الفرضية الثانية، طفق أهل الوسط والشمال النيلي، حماة العروبة والإسلام في السودان، يحكمون سيطرتهم في طول البلاد وعرضها متدرعين في ذلك بمؤسسة الدولة ومركزيتها، فقبضوا على مفاصل السلطة السياسية بحيازتهم على مواقع صناعة القرار الوطني في مرافق الدولة الحيوية واحتكروا مقدرات البلاد بتسنمهم للمراكز القيادية في المؤسسات الاقتصادية الكُبر التي تشكل عصب الحياة في البلاد، فأثروا وتملكوا على حساب غيرهم.
وعلى مدى سني الاستقلال تراكمت ظلامات كثيرة جراء هذه الممارسات، فانغبنت أطراف البلاد سياسياً واجتماعياً وثقافياً، وتردت أحوال الناس فيها إلى حد الزراية والانفجار. فكان طبيعياً أن تفضي بنا هذه الأوضاع إلى النهاية المحتومة، وهي سلسلة حروب أهلية افترع أهل الجنوب أتونها المستعرة في 1955م. وأود أن أشير في هذا السياق إلى أنه دائماً ما يختزل الصراع في السودان، في جميع مستوياته، في أنه صراع بين الشمال والجنوب، وذلك في محاولة للايحاء بان الشمال كله وحدة ثقافية واجتماعية وسياسية متجانسة. تجلى ختل وخطل هذه النظرة من خلال متوالية الحروب التي خاض غمارها – ولازال - قوى الهامش المغبون ضد مركز مهيمن ومتعالي في مناطق كان ينظر إليها دوماً على أنها مستودع للمقاتلين في ساحات الحرب ورصيد احتجاجي كبير على طاولة التفاوض للشمال في مواجهة الجنوب. ونعنى بذلك مناطق جبال النوبة والنيل الأزرق وشرق السودان ودارفور.
وفي شأن هذه الحروب يقول البعض إن أكثر مناطق السودان تعاني الإهمال والتهميش نظراً لانعدام التنمية بشقيها الاجتماعي والاقتصادي فيها. وبناءً على ذلك يتساءل هؤلاء: لماذا يرفع الجنوبيون، والنوبة، والبجة، وأهل النيل الأزرق ودارفور السلاح في وجه السلطة الحاكمة؟ لماذا هم دون غيرهم من أهل السودان؟ ورداً عليهم نقول أولاً: إن يكن في السودان خلل في التوازن التنموي والخدمي يصل حد العدمية في بعض المناطق فهذا ليس قدراً ربانياً بقدر ما هو فعل من صنع أيدينا، وذلك لغياب الرؤية والإرادة والضمير. ثانياً: أو إن رضي الناس في بعض أنحاء السودان بالظلم وناموا عليه، أيكونوا في ذلك مثالاً أو مثلاً أعلى يحتذى، ومعياراً يحتكم إليه في تقدير وتصريف الأمور في أنحاء أخرى من القطر؟ أي منطق هذا الذي يحكم هذا النمط من التفكير؟ ثالثاً: إن الحروب الموجهة ضد المركز لم تكن فقط من أجل تهميش اقتصادي وحقوق اجتماعية هضمت، فهذا فقط وجه واحد من أوجه التهميش المتعددة؛ بل كانت أيضاً من أجل استرداد حقوق سياسة مغصوبة تتمثل في المشاركة في السلطة، فضلاً عن وضع حد لعمليات القهر والتذويب الثقافي المتنامية التي تتمثل في محاولات المركز الحثيثة للقضاء على الهوية الثقافية للشعوب السودانية الإفريقية، تارة باسم العروبة والإسلام ومرات أخرى باسم الائتلاف والوحدة والتدامج القومي. وهذا أمر يثير في النفوس الإحساس بالضيم والكثير من الغبن. إن عمليات القهر والتذويب الثقافي هذه لا تعنى في قليل أو كثير أولئك المتسائلين طالما كانوا آمنين ومترفين ثقافياً للدرجة التي تجعلهم يهددون الأمن الثقافي للآخر تحت ذرائع ودعاوى شتى. رابعاً: لقد ثبت عملياً للقاصي والداني أن القوم في المركز لا يقيمون وزناً ولا قدراً إلا لمن يخاطبهم بلغة السلاح ويسمعهم قعقعته ويريهم من بأسه ألوانا. ولقد عبر عن هذا المعنى رئيس الجمهورية نفسه المشير عمر حسن أحمد البشير في لقاء جماهيري له في إحدى مدن الشرق، إذ قال وفي دعوة صريحة للمعارضين لحكمه من أهل الوسط والشمال النيلي ما يفيد أنهم في جماعة الإنقاذ قد غصبوا السلطة بقوة السلاح فمن أرادها فعليه بها. ولقد استوعب قبلاً أهل الهامش هذا الكلام وهذا المعنى بفطرتهم السليمة، فلم ينتظروا دعوة البشير لهم لرفع السلاح في وجه الظلم، بل سبقوا إلى ذلك بزمان بعيد فهم العليمون بسيكولوجية المركز وطويته.
هذه بالطبع ليست دعوة إلى اعتماد القوة المسلحة كخيار أول وأوحد في مقاربة الخلافات والمشاكل واقرار الحقوق وكفالتها كما يتبادر إلى أذهان الكثيرين من ذوي العنة الفكرية. فهذا بلا شك منطق أخرق لا يأتيه إلا الأحمق الذي تعوزه الحجة والقدرة على المقارعة بالتي هي أحسن. ما نقوله هو أن الهامشيين قد نفد صبرهم الذي تمددت حباله لأكثر من جيل. فمنذ الاستقلال وهم يشكون، من بعد الله لطوب الأرض، بؤسهم وذلهم وشقائهم ويطالبون سلماً عبر مؤسساتهم وتنظيماتهم السياسية الاقليمية بحقوقهم في التنمية الاجتماعية والثقافية ونصيبهم في السلطة. ولقد دأبت تنظيماتهم المتعددة مثل مؤتمر البجة في الشرق، ونهضة دارفور في الغرب، واتحاد عام جبال النوبة في جنوب الوسط، وتضامن قوى الريف بالعاصمة، في عرض مطالبهم العادلة لكن دون جدوى، فقد أقام القوم في المركز جداراً سميكاً يحول بينهم ومواطنيهم في الأطراف. وعندما تغيب البصيرة لدى الحكام الغاصبين، وتغدو القوة لديهم هي الحق، ويتعمدوا أن لا يسمعوا ويعوا شكاوي وظلامات مواطنيهم حينها فقط تسقط عنهم الحصانات، وتصبح التي هى أخشن الوسيلة المثلى لإسماع من به أو يدعي الصمم، ويغدو الكفاح المسلح ضرورةً لا محيص عنها، واللجوء إلى العنف ظاهرة صحية جداً ومطلوبة. يقول الله تعالى في هذا المعنى: "فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين" (البقرة : 251)
الجدير بالذكر أن زمر المغيبين المغبونين في أطراف السودان قد بدأت في العام 1985 في اللحاق بركب النضال المسلح ضد المركز لتحيط به إحاطة السوار بالمعصم، منهية بذلك مرحلة من الصراع نظر إليها البعض على أنها استقطابٌ خطيٌ(Linear) ، كما يصفها محمد جلال أحمد هاشم، أي شمال عربي مسلم في مواجهة جنوب أفريقي مسيحي / وثني، ومعلنة من ناحية أخرى، بداية مرحلة جديدة أصبح الاستقطاب فيها دائريا(circular)، أي مركز سودانو عروبي مستحوذ على السلطة والثروة في مواجهة أطراف ذات ثقافة سودانو إفريقية مغبونة ثقافياً واجتماعاً وسياسياً.(7)
حدث كل ذلك بعد ثلاثين عاماً من اندلاع أول شرارة للحرب في الجنوب في 1955. وفي اعتقادنا أن تلك الفترة كانت كافية لتصحيح وتقويم المسار وردّ الحقوق لأهلها لو صلحت نوايا أهل الحكم، لكن هيهات! فالمركز لم يكلف نفسه أبداً عناء التفكير والتملي في مخاطر توجهه الأيديولوجي، ومنهجه في الحكم اللذين لم يفضيا إلا إلى تصاعد الاحتدامات والثورات المسلحة، وإفلاس مشروعه الثقافي الاستلابي، وبوار بضاعته التي سعى لترويجها في أسواق الهامشيين المغبونيين، معرضاً بذلك استقرار البلاد ووحدتها لمخاطر جمة لازالت نذرها تحدق به من كل حدب وصوب.
إن حق تقرير المصير، وما أدراك ما تقرير المصير، هو بكل المقاييس تحدي التحديات الذي لم يكن ليلزمنا لو أنَّا أحسنا إدارة تعددياتنا الثقافية والعرقية والدينية. فالتاريخ الحديث ينبؤنا بأن ما من شعب أعطى هذا الحق إلا وكان تعاطيه له إيجاباً، بمعنى تفضيل خيار الانفصال على الوحدة، وربما الاستثناء الوحيد هو حالة كيوبيك في كندا، وهى حالة شاذة. إننا إذا تمكنا من اجتياز هذا التحدي الكبير بسلام - وهو ما نرجوه ونصبوا إليه - سلم لنا السودان بأهله وحدوده، وإن أخفقنا لا قدر الله ربما كان ذلك بداية لانفراط بقية حبات العقد لتذهب بعده ريح السودان الوطن الواحد، ويتفرق أهله. وأي خطر وتحدي أكبر من هذا الذي وضعنا فيه مركز غشُوم؟
ونجئ إلى الفرضية الثالثة والأخيرة، والتي مفادها أن العنصر السوداني الإفريقي غير جدير بتولي أعباء الحكم، وقد انطوت هذه الفرضية على جملة من الآراء السلبية غير المؤسسة في حق هذا العنصر.
لقد كانت للصورة القديمة التي رسمها اليونانيون حول دونية الجنس الأسود في إفريقيا أثراً عظيماً في صياغة مواقف وتصورات المفكرين والجغرافيين والمؤرخين العرب المسلمين. يقول أندريه مايكل بأنه عندما ترسخت دار الإسلام في التاريخ ورثت في الوقت ذاته شكوك التقليد القديم، الكتبي أو الأسطوري. كما يشير إلى أن المعلومات المتوارثة حول إفريقيا قد صاغها في الأصل كل من بطليموس الذي قدم صورة ممتزجة بالخيال عن تلك البلاد، وجالينوس الذي رسم اثنوغرافية العرق الأسود على نحو يفتقر إلى الأصالة(8). ويضيف عبد الله إبراهيم إلى ذلك قائلا: "على أن الموجه اليوناني القديم، والكامن في الأدبيات الجغرافية والفلسفية، والذي عرف وشاع في الثقافة العربية الإسلامية في وقت مبكر ...، لم يكن ليكتسب هذه الأهمية التأصيلية في تثبيت الصورة الزنجية في المدونات الجغرافية الإسلامية، وعموم الأدبيات الأخرى لو لم يجد قبولاً بدئياً مرتبطاً بالآخر فركبت له صورة دونية لابتعاده عن الأفق العام لنسق القيم الإسلامية، ذلك الأفق الذي يضفي على الإنسان قيمته بوصفه منتمياً إلى دار الحق والصواب والإيمان، إلى ذلك فصورة الأسود كانت مثار تشويه، أحيانا بسبب وجوده المهمش في دار الإسلام، وخضوعه لمقايضة دائمة حالت دون معرفة بعده الإنساني الطبيعي"(9).
ليس العرب وحدهم هم من مشى في ركاب تلك الصورة الخيالية التي رسمها الإغريق للسود في إفريقيا، بل إن الفكر الغربي الحديث قد ساهم في تثبيت وتنميط تلك الصورة السلبية التي تصدر عن رغبات ومواقف ثقافية متحاملة. فها هو الفيلسوف الألماني هيجل يصدر أحكاماً مجحفة في حق الجنس الأسود حيث يقول: "... فالرجل الزنجي، ... يمثل الإنسان الطبيعي في حالته الهمجية غير المروضة تماماً ولابد لنا، إن أردنا أن نفهمه فهماً حقيقياً سليماً، أن نضع جانباً كل فكرة عن التبجيل والأخلاق، وكل ما نسميه شعوراً أو وجداناً، فلا شيء مما يتفق مع الإنسانية يمكن أن تجده في هذا النمط من الشخصية..." ويمضي هيحل في أحكامه المتحاملة ، فيضيف قائلاً: "... ولقد اختفت عندهم بتأثير من العبودية المنتشرة بينهم، جميع روابط الاحترام الأخلاقي التي نعتز بها نحو بعضنا بعضاً ... وكثيراً ما يكون الهدف من ممارسة نظام تعدد الزوجات عند الزنوج الحصول على عدد كبير من الأطفال ليباعوا جميعاً كرقيق ..."(10).
وهنا يورد إمام عبد الفتاح إمام ملاحظتين مهمتين: الأولى هي أن هيجل قد أصدر أحكامه هذه قبل عصر الكشوف الجغرافية لإفريقيا، ولقد استند فيها إلى روايات المبشرين الذين يقول هو نفسه عنهم إنهم "يكنون عداءً طبيعياً للسحر؛ وهو الديانة الطبيعية للزنوج "؛ والثانية هي أن أحكام هيجل تبدو وكأنها تؤلف تمهيداً فكرياً لحركة الاستعمار الأوروبي في إفريقيا، وتبريراً عقلياً ممتازاً له (11).
شكلت هذه الأفكار عن السود والتصورات الموروثة عنهم، بالإضافة إلى الميل والاستعداد الفطري للظلم وعياً وضميراً للجماعة العربية الإسلامية السودانية، وجدلت مشاعر أفرادها تجاه إخوتهم ومساكنيهم في الوطن من الجماعات السودانية الإفريقية. ونشير هنا إلى أن الجماعة العربية الإسلامية قد
مارست – ولاتزال – التمييز والاستعلاء العرقي من خلال اجترارها لكل موروث بغيض من مؤسسة الرق من أقوال وأفعال ومواقف ما فتئت تلون نظرتهم للسودانيين الأفارقة ونحن بذلك لا نفتري على أحدٍ، ولا نقول كذباً، فوقائع التاريخ الذي نعرفه ويعرفه الجميع، والحاضر الذي نعيش ينطق بهذا. إن التمييز على أساس اللون والعرق يعتبر خبرة راكزة لدى الجماعة العربية الإسلامية السودانية، فهي تمارسه بوعي تام في إطار منظومة ثقافية متكاملة تهدف في الأساس إلى رسم حدود عرقية فاصلة بينها وبين الجماعات السودانية الإفريقية على نحو يحقق لها بعض أغراضها الأيديولوجية، ويحفظ لها حق امتياز أنسابها "الشريفة". وهو الأمر الذي يشير إليه محمد جلال أحمد هاشم، حيث يقول: " إن النسب ما هو إلا سلاح أيديولوجي يستخدم في عملية ممارسة السلطة، وصراع الإنسان ضد أخيه الإنسان في سبيل احتياز أكبر قدر من الخيرات المادية في هذه الحياة"(12).
ويتبدى هذا التمييز والاستعلاء كأوضح ما يكون في "الزواج" كمؤسسة اجتماعية تعبر من خلالها الجماعة العربية الإسلامية عن موقفها الثقافي ونظرتها الدونية للعنصر السوداني الإفريقي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الزيجات المتقاطعة بين أفراد الجماعة العربية الإسلامية والعناصر السودانية الإفريقية تعتبر ظاهرة اجتماعية قليلة الحدوث، وإن وجدت فهي ذات اتجاه واحد؛ "فأولاد البلد"* يقبلون الزواج بالجنوبيات ونوبيات الجبال والدارفوريات وكل بنات ونساء القوميات السودانية الإفريقية دون أدنى حرج في أغلب الأحوال، إلا أنهم يرفضون أن يكون العكس صحيحاً، أى أن يتزوج منتسبو القوميات السودانية الإفريقية ببناتهم ونساءهم "بنات العرب". فكيف لنا أن نفهم دوافع هذا السلوك التناقضي؟ هل هي الخشية من الحطَّ بأنسابهم الرفيعة؟ كما يقول بذلك هارولد ماكمايكل الذي يرى في هجنة الجماعة العربية الإسلامية السودانية سمو بالدم الإفريقي وانحطاط بالدم العربي، أم أن ذلك يتم بتأثير من ثقافة "ما ملكت أيمانكم"؟ أم أن الأمر برمته لا يخرج عن كونه تكتيكاً استيعابياً يتم بمقتضاه ترويض نموراً إفريقية وجلبها إلى داخل حظيرة الجماعة العربية الإسلامية؟ في اعتقادنا أن الأمر لا يخلو من كل هذه العوامل مجتمعة، وهي عوامل يمكن قراءتها في ضوء مفهوم "الشرف" في ثقافة الجماعة العربية الإسلامية السودانية. فالمرأة في هذا المفهوم الثقافي تمثل أضعف حلقات المنظومة الاجتماعية التي يمكن أن تُؤتى من خلالها القبيلة أو الجماعة والنيل من شرفها. استناداً إلى ذلك، فزواج الرجل بمن هي دون، وفقاً للتراتبية الاجتماعية القائمة على اللون والأصل العرقي، لا يدنس شرف النسبة، بينما ينظر إلى زواج المرأة بمن هو دون على أنه حطُّ بشجرة ذاك النسب الكريم. صفوة القول هو أن هذا السلوك الذي يبدو متناقضاً في ظاهره يتسق تماماً في جوهره مع القيم التي تحض عليه.
من جانب آخر، فإن قاموس اللغة العامية لدى الجماعة العربية الإسلامية السودانية، والذي يغص بألفاظ وتعابير مقيتة تهدر من قيمة الإنسان وكرامته لينهض دليلاً آخراً على ممارسة التمييز والاستعلاء، وفساد تلك المنظومة التي تنتجه استناداً إلى أحكام قيمة بها تصنف البشر وفقاً لألوانهم ومرجعياتهم العرقية، وهو أمر في مجمله يعكس أزمة أخلاق وضمير إنساني عميقة.
ويصنف تبخيساً واستعلاءاً أيضاً مسالة تعريف الشعوب ولغاتها وثقافاتها من خلال الآخر، فيقال: الجماعات غير العربية، أو اللغات والثقافات غير العربية. فلماذا يتخذ العرب كجنس، أو اللغة والثقافة العربية أدواتٍ أو أسماءاً للتعريف من خلالها بالشعوب، والثقافات واللغات السودانية الإفريقية؟ ولماذا كل هذا التنكير؟ ألا تستحق هذه الشعوب أن تعرف بأسمائها، أو باسم جمعى يدل عليها؟ لاسيما وأن بينها كثير من القواسم المشتركة. إن هذا الأمر في حقيقته ينطوي على ظلال سلبية تكشف عن نظرة مستغرقة في الخفض والضِّعَةُ.
من جانب آخر، يعتقد البعض بأن الوحدة الوطنية في السودان يمكن تحقيقها من خلال شروط تنموية متكافئة تعم كل أرجاء الوطن، وهذا صحيح من الناحية النظرية لكنه غير كاف، فهناك عنصراً مهماً ومكملاً أراه مفقوداً وهو أنه ما لم يصاحب ذاك العمل التنموي جهدٌ موازٍ يستهدف تغييرات جوهرية وكلية في طرائق التفكير وأنماط السلوك الاجتماعي، وذلك من خلال تفكيك منظومة القيم والمسلمات الثقافية الشائهة التي تصدر عنها الجماعة العربية الإسلامية في تعاملها مع الجماعات/ القوميات السودانية الإفريقية واستبدالها بقيم نبيلة تليق بكرامة الإنسان، فإن الأوضاع السياسية والأمنية في السودان لن تشهد استقراراً أبداً، ولن يتحقق السلام الاجتماعي الذي ننشد . ويجب أن نفهم نحن السودانيين أن بلدنا ليس بدعاً من الدول أو استثناءاً، فما جرى في الاتحاد السوفيتي القديم، ومنظومته الاشتراكية في أوروبا الشرقية من تصدع وتداعي للدولة الموحدة فيها ليس ببعيد عن الأذهان. إن خمسين عاماً عشناها في ظل ظلم وقهر متصل كفيلة بتفكيك أعتى الدول؛ فإن تهيأ لنا عيش مشترك في دولة موحدة تسع الجميع، وتحترم فيها العهود والمواثيق دون مراوغات، وتحفظ فيها حقوق الإنسان وتصان كرامته فبها و نعمة، وإلا فطلاق بائن يحقن الدماء، ويحفظ الأرواح.
الآسس الشرطية لبقاء الدولة الموحدة في السودان:
إن كان لابد للسودان أن يبقى وطناً واحداً موحداً ينعم الجميع في ظله بعيش متكافئ ، فإن على السودانيين ابداء الرغبة في ذلك من خلال التواضع على جملة من الأسس الشرطية اللازمة لوحدة طوعية حقيقية والتزام الوفاء بها دون مراوغة أو محاولة الالتفاف عليها، وهي:
1/ إعادة هيكلية الدولة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً على نحو يحقق العدل والمساواة للجميع، فضلاً عن بسط الحريات العامة والحقوق الأساسية، الثقافية والدينية بخاصة، وفق معايير المواطنة الحقة دون أي استثناءات أو تحيزات.
2/ أن تكف الدولة والجماعات والأفراد فيها عن أي تدخلات تحد من طبيعية وتلقائية السيرورة الهويوية للبلد، بعبارة أخرى يجب أن ندع الهوية الجمعية تتشكل بالكيفية التي تختارها، وأن تأتي بالقميص الذي تريد متمثلة في ذلك واقع التنوع الثقافي والتعدد اللغوي والديني الذي يميز السودان. وهذا يستلزم أن ننأي بها عن القسرية التي نشهدها اليوم، والتي تقضي بأن يطرح بعضنا هوياتهم الثقافية (الصغرى) والدينية جانباً وتبنى هوية ثقافية ودينية بعينها، ويستلزم ذلك أيضاً توفير فرص نمو متساوية لجميع الثقافات واللغات السودانية، والديانات السماوية، والمعتقدات الأرضية وتهيئة الظروف المناسبة لها جميعاً، وبعد ذلك فليتنافس المتنافسون.
3/ أن تعمل الدولة على بناء روح وطنية خالصة ووجدانيات سليمة ومعافاة تساعد على تجسير الهوة بين أبناء الوطن الواحد، وذلك بإحداث ثورة في مناهج التربية والتعليم تعني بشكل خاص بالتربية الوطنية والوجدانية التي تعرف الناشئة بقوميات وثقافات ولغات وديانات أهل السودان ، فضلا عن تعريفهم بتاريخهم الحقيقي، وتنشئتهم على قيم الكرامة والجدارة الإنسانية.
4/ أن تعمل الجماعة العربية الإسلامية على التخلص من عقدة استلابها السامية، وذلك بطرح نظرتها الاستعلائية للأعراق السودانية الإفريقية ولغاتها وثقافاتها جانباً، وأن تفسح المجال للزيجات البينية ثنائية الاتجاه كوسيلة للتطبيع الاجتماعي وتغيير المفاهيم الثقافية الشائهة.
5/ أن تقود مؤسسات المجتمع المدني المختلفة وعلماء الدين والطليعة المستنيرة حركة التغيير في المجتمع بقصد تهذيب ثقافته والارتقاء بوعيه الديني والأخلاقي والاجتماعي من خلال التبشير بقيم جديدة فاضلة ونبيلة عوضاً عن تلك القيم القديمة الشائهة والمغلوطة، وذلك أملاً في بناء سودان جديد معافى من علل وأسقام الماضي البغيض.
تلخيصاً لأشتات هذا المقال، أقول بأن التشوهات الاجتماعية والثقافية والمشكلات السياسية عميقة الجذور، والتحييزات العرقية والحواجز النفسية جداً كبيرة، والتغييرات بطيئة وضعيفة الأثر في المجتمع. وأقول أيضاً بأن مسئوليات الصفوة المستنيرة جسيمة والتطلعات لدورهم الريادي عظيمة، غير أن درجة استجابتها لذلك التحدي تعتبر ضعيفة وليست بالمستوى المطلوب قياساً إلى جدية وخطورة الاستحقاقات الراهنة. فالسودان اليوم كيانه مهدد بأن يكون أو لا يكون، فهو يقف على مفترق طرق قد تؤدي إلى روما أو إلى غيرها. أملي أن تبتدر هذه الورقة حواراً موضوعيا جسوراً وسجالاً فكرياً يمكننا من عبور هذه الأزمة المتجذرة في نسيج مجتمعنا السوداني. وأختم بأن ليست الشجاعة أن تقول ما تعتقد ، ولكن الشجاعة أن تعتقد ما تقول.
الهوامش والإحالات
1/ عبد الباسط صالح سبدرات؛ الدستور هل يستوى على الجودى!؟ الخرطوم، الطبعة الثانية ، صفحات 72-79-116-373.
2/ راجع ما كتبه المفكرون والجغرافيون والمؤرخون العرب المسلمون في حق الجنس الأسود والصفات الدونية التي دمغ بها في مقالة: عبد الله إبراهيم؛ "إفريقيا السوداء .. مزيج غامض وموروث أغريقي" مجلة التربية، الدوحة، العدد 139، ديسمبر 2001، ص 142-159.
3/ محمد المهدي المجذوب؛ ديوان نار المجاذيب، دار الجيل، بيروت، 1982م، ص 20.
4/ عبد الله علي إبراهيم؛ الثقافة والديموقراطية في السودان، دار الأمين، القاهرة، الطبعة الثانية، 1999، ص20.
5/ المرجع السابق، ص30.
6/ المرجع السابق، ص 30.
7/ محمد جلال أحمد هاشم؛ منهج التحليل الثقافي: القومية السودانية وظاهرة الثورة والديموقراطية في الثقافة السودانية، الطبعة الرابعة، مركز دراسات القومية السودانية، 1999م، ص68-69.
8/ ورد هذا في مقالة: عبد الله إبراهيم؛ "إفريقيا السوداء .. مزيج غامض وموروث إغريقي"، ص140.
9/ المرجع السابق، ص141.
10/ هيجل؛ محاضرات في فلسفة التاريخ: الجزء الأول: العقل في التاريخ، ترجمة وتقديم وتعليق إمام عبد الفتاح إمام، بيروت، دار التنوير للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة، 1983م، ص174-178.
11/ أنظر الهوامش في المرجع السابق، ص172-174.
12/ محمد جلال أحمد هاشم؛ "السودانوعروبية، أو تحالف الهاربين": المشروع الثقافي لعبد الله علي إبراهيم في السودان، ورقة قدمت في مؤتمر مركز الدراسات السودانية، القاهرة تحت عنوان: "الثقافة والتنمية الشاملة! نحو استراتيجية ثقافية"، دار الأوبرا، 4-7 أغسطس 1999، ص24.
Salouf@live.com
* أولاد البلد : تعبير استعلائي أراد به أهل الوسط والشمال النيلي "الجماعة العربية" تمييز أنفسهم عن الأعراق السودانية الإفريقية .
0 comments:
إرسال تعليق