ديلي ...

بقلم / محمد نياتو 
نفيسة إمرأة في العقد الثالث من عمرها يعمل زوجها دهابي ( منقب ذهب) ولذلك فهو يغيب عن داره طيلة أشهر فلاتجد من يؤنس وحدتها سوي جاراتها اللائي يجاورنها في القرية فهن يأتين لبيتها عندما يقضين أغراضهن المنزلية وكل تحمل فنجانا ممتلئا حتي الحافة بالبن وإناءا به قليل من السكر ، وربما أضافت إحداهن شيئا من البلتو أو الفول المدمس لما تحمله تحت ثوبها وتنسل خلسة عن أنظار المسنين الجالسين تحت شجرة العرديب التي تتوسط بيوت القرية وهم منهمكون في حكايات لاتنتهي عن أيام صباهم والمواقف التي مرت بهم آنذاك...
وبعيدا عن شجرة العرديب ذات الظل الوارف وفي منزل نفيسة الهادئ تسللت نسوة في مثل عمرها حيث دعتهن نفيسة كعادتها لإحتساء قهوة الضهرية ومعرفة مايخبئ لهن القدر في مستقبل أيامهن حيث حضرت الشول ست الودع تلبية لرغبة هؤلاء النسوة.
وبعد تبادل آيات الترحيب والمجاملة إتخذت النسوة مواضعهن من الجلسة وبدأت ست الدار في قلي البن وتجهيزه وجلست الأخريات تتبادلن أخبار القرية ومستجداتها وأخذت الشول ست الودع في تجهيز شئ من الرمل الناعم أمامها ثم أخرجت صرة صغيرة مربوطة وفكتها بعناية ودلقت مابها علي الرمل فإذا هي سبعة ودعات بيضاء تسر الناظرين.
ومرت لحظات كأنها دهور قامت خلالها نفيسة ست الدار بتوزيع فناجين القهوة الفارغة علي الجالسات ثم قامت بصب القهوة لهن وهي تسألهن بإهتمام عن مدي كثرة أو قلة العرق( بكسر العين والراء وهو البهار).. وتجيب جمعيهن بأن العرق مناسب.
وبمجرد أن أخذن في إرتشاف ما بالفناجين من شراب تبدأ الفونقة ( عبارة عامية تعني التنبه المفاجئ) فتقول فاطنة بت البر:
الرسول يالشول كن مارميتي لي الودع النشوف ولدي دا مالو.... أصل حالتو ماعاجباني اليومين ديل.!
فتستجيب الشول وهي تنظر خلسة ليد فاطنة التي تفك طرف ثوبها وتخرج مبلغا من المال وتضعه فوق الرمل بجوار الودع وهي تقول.. أها ودا بياضك.
وترفع الشول حبات الودع وهي تتمتم بكلمات من جنس الأدعية ثم ترمي مابيدها فوق الرمل فتنتشر حبات الودع في غير إنتظام.
هنا يحل بالمكان سكون عجيب ويحدث صمت كصمت المصلين لحظة الجلوس الأخير للتشهد ، ثم تبدأ الشول في الكلام وكأنما تحدث نفسها أو شخصا غير مرئى للباقين فتقول.... بري ... بري.... الوحيد الفريد.... الوحيد... الله يغطيك.... بري بري... ودا مالو محمدو...؟
فتسرع فاطنة بت البر وتقول بتوجس وكأنها أحست بخطر يحدق بإبنها.. كر علي ... ووب علي ... ولدي مالو.... والحاصل عليهو شنو.. خصمتك بالنبي كن توريني يالشول .
فتلتفت الشول إلي نفيسة ست البيت وكأنها لاتبالي بحديث فاطنة بت البر وتقول لها: البخور يانفيسة... كتري الجاولي ، زيديهو في المخبر وأديني العلبة حقتي ديك.
ثم وبحركة درامية سريعة تلتفت لفاطنة المنتظرة علي أحر من الجمر وتضع يدها علي حبات الودع تجمعها وهي تحثها علي وضع شئ من المال كبياض جديد وتقول لها وهي تنظر في عينيها نظرة حادة وكأنها الصقر:
أنا ودعي مابكضب... بس الله يكضب الشينة... ياحليلك المسكين.... إن شاء في وش عدوك..... وتبدأ في طرح الخطوط التي أحدثتها أناملها في الرمل وتساوي سطحها.
وترمي حبات الودع بحركة حريفة بحيث تجعلها هذه المرة متقاربة المواقع وتقع بعضها فوق الأخريات متراكمة وهنا وبحركة مفتعلة تصرخ الشول بصوت تجعله أعلي من المعتاد وترسم خلاله شيئا من مشاعر اللوعة والهلع المفتعل سجمي سجمي... الزول دا مالو.... الزول الأخضر القصير دا .... وكمان المرة ديك...عايني عايني شوفيهم وقوفو وبتشاورو علي الوحيد.!
النفرين ديل كلامهم واحد ودنقرهم واحد.... قهرتكم بسيدي الغزالي أب مقامن عالي.... وبسيدي الترابي المدفون في الصبابي...... قهرتكم بشيخي كلول أب سيفن مسلول..
وهكذا تدعي وتتكلم دون أن تبين حتي ماهي الحكاية وذلك مما يرفع معدل الأدرنالين في دم الحاضرات جميعهن وتجعلهن في حالة من (التنشنة) والذهول وتعجل التفسير والشرح... وهنا تلتفت الشول وتسأل فاطنة بت البر بكل براءة.... هو ولدك دا فات ياتو بلد ولي شنو..؟
فتجيبها فاطنة... ولدي في دبي مغترب ليهو تلاتة سنة...
وعند سماع الشول لإجابة فاطنة تسرع بإلتقاط حب الودع وهي تضع خطة محكمة في رأسها ثم تقول لفاطنة.... كدي ختي بياضك أصل ودعي دا مابكضب.. النشوف آخرتها.!
تضع فاطنة آخر مالديها من مال وهي تنظر للشول نظرة المستعطف الذي يرجو من الحاكم الرأفة في الحكم عليه.... وترمي الشول حبات الودع وتعقبها بصرخة مفتعلة.. سجمي سجمي سجمي. الوحيد الفريد.... لا لا برية برية... تبرا ياحشاي.!
فتتسأل فاطنة بنظرة وتهمهم الباقيات بدعاء غير متباين فمنهن من تقول... الله يستر... ومن تقول... الله يكضب الشينة... ومن تقول ... ياربي تجعل العواقب سليمة.....

وتردف الشول كلامها ذاك بالتوجه لفاطنة قائلة.... ياحبيبتي الله غالب.... أمشي لفكي أبو كرتة وهو بفتح ليك الخيرة وبشوف البسوي الله.... لكن ماتمش للفكي ساي ... هاكي البخور دا وأمشي سوي في البيت صباح وعشية لمدة تلات أيام وبعد داك أمشي قابلي الفكي.
وتمد الشول يدها بصرة مربوطة فتأخذها فاطنة وهي تسأل عن بياض البخور فتقول لها الشول وهي تتعمد الإلتفات للناحية الأخري.. خمسين جنيه بس يافطين... رسليهم لي بعدين في البيت مع الأولاد....( ذلك إن الشول علمت بنفاد كل مابيد فاطنة حاليا وهو مبلغ خمسون جنيها)..
ثم تلتفت الشول وترمي الودع وتختار بذكائها الإجرامي ثاني أثري الحاضرات فتقول لها وهي تشير لحبة ودع ناحيتها.... أها ياليلي... الودع دا محمدك عديل.. شن قولك... فتستعدل ليلي جلستها وتفك طرف ثوبها لترمي البياض.
وهكذا تستمر دائرة الإهلاك المالي ونضوب ماتوفر منه لدي الحاضرات دون معرفة الحاصل حتي تميل الشمس ناحية الغرب فينفض المجلس تحت وصايا الشول المشددة بمقابلة الفكي أبوكرتة خلال فترة أسبوع علي أسوأ الفروض.
تلك إحدي مخرجات جلسات الجبنة في البيوت... كونوا بخير وصباحكمZain...
Share on Google Plus

عن المدون gazalysidewalk.com

هنا نبذة عن المدون ""
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 comments:

إرسال تعليق