نعم للثورة.. والتحية للشرفاء.

 الطيب الزين

مهما تعددت الرؤى واختلفت المواقف وتباينت التقديرات للنهايات المتوقعة للحراك الجماهيري الذي تشهد البلاد هذه الأيام والمتسع والمتصاعد، الرافض للزيادات التي اعلنتها الطغمة الحاكمة بلا تفويض من الشعب منذ ١٩٨٩، إلا إنه يشكل نقطة تحوّل مهمة، في مسيرة النضال السياسي، الذي يخوضه شعبنا البطل وقواه الوطنية الحية التي قدمت التضحيات الجسام وما زالت تتقدم الصفوف لاسيما في هذه الأيام.
الحراك الذي الذي اعنيه : هو خروج بعض قيادات حزب المؤتمر السوداني للشارع ومخاطبة الشعب وتبصيره بحقائق الأمور وحثه للخروج للشوارع تعبيرا عن رفضه لسياسات النظام الجائرة، وكذلك البيان الذي صدر من جانب الحزب الشيوعي، والذي دعى مناضليه للخروج وقيادات التظاهرات ، وكذلك حزب البعث العربي الاشتراكي الذي تقدم مناضليه الصفوف كالعهد بهم، وقد اعتقل البعض منهم، وقد حياهم المناضل محمد حسن بوشي، في خطابه الصوتي المنشور في صحيفة الراكوبة يوم أمس، انها خطوات مهمة جداً لإنجاز الثورة والتغيير الشامل الذي سيضع حداً لواقع الأزمة التي قاربت الثلاثين عاماً..! ان هذه خطوات نضالية جريئة، حتماً ستفتح بعض الصناديق المغلقة وتخرج بعض محتوياتها السرية والممنوعة. كما أنها ستنهي أسطورة أو تقديس تلك القضايا التي تشبه المحرمات وغير القابلة للتداول والنقاش من جانب أنصار الطغمة الحاكمة وستدفع بالبعض منهم للاقتداء بهؤلاء الشرفاء تبرأت لذمتهم بإعلان انحيازهم لصفوف الشعب، بعد فشل قياداتهم في تحمل المسؤولية، وستدفعهم صحوة الضمير المنتظرة ان كانت لهم ضمائر حية لاسقاط تلك الهالات المصطنعة عن بعض رموز حكمهم بحكم انتهاء صلاحياتها السياسية، ومعها كل «الخطوط الحمراء» و «الخطوط الصفراء» بعد تجربة الحكم التي فشلت في كل شيء، لم يعد هناك أحد فوق النقد، ولم يعد هناك من يخاف أو يخشى ممارسة هذه القيمة أو الفضيلة.
إلى جانب هذه المسائل الفرعية والمهمة التي أفرزتها المسيرة النضالية لشعبنا. إلا أن الأهم هو انها ازالت الغشاوة عن عيون الشعب، وحررته من وهم الانتظار والتعويل على حملة السلاح والقيادات السياسية التي عفى عليها الزمن ، واكدت ان الثورة ينجزها الشعب حينما يصل لمرحلة النضج السياسي، وهذا الامر تجلى بكل وضوح من خلال المقالات الجريئة التي يكتبها الكتاب الشجعان أمثال الصحفي الشاب عثمان شبونه، والاستاذ فتحي الضو ، ومولانا سيف الدين حمدنا الله، وأخيراً لحق بهم الصحفي عثمان مرغني وغيرهم من الشرفاء ونشير لهؤلاء بالأسم، لان أغلب كتاباتهم إنصبت حول نقد الدولة الفاشلة التي مثلتها تجربة الانقاذ، ومراهنتهم مستمرة على إقامة الدولة التي تنهض بمهمة حماية المواطن وتحقيق الأمن والاستقرار للوطن، والعمل على جلب أو إنجاز هدف التنمية الشاملة لمصلحة كل المواطنين، دون تفريق أو تهميش لأحد منهم لأسباب سياسية أو دينية او إثنية او جهوية، باعتبار أن هذه الدولة تمثلهم جميعاً، طالما كانت دولة قانون ومؤسسات ومواطنة، بخلاف ما يحدث عندما تكون هذه الدولة قائمة على «عصبيات» ما قبل الدولة مثل القبلية أو الجهوية أو العائلية هنا يغيب مفهوم الشعب، والمواطنون يصبحون مجرد «رعايا» يتم تسخيرهم لخدمة (الدولة/السلطة) وليس العكس، وهذه إحدى صفات أو مميزات الدولة المأزومة، وهنا تتجلى إحدى علامات تآكل أو اختفاء البنية القانونية أو المؤسساتية في مثل هذه الدولة، وتتكشف أهم أعراض مرض «نقص» الشرعية الذي يطفح على جسدها ويطبعها بالضعف والهزال الدائمين.
فشل مثل هذه الدولة، ليس عمره يوم او شهر او عام، بل هو عقود من القهر والحرمان والمعاناة السياسية والاجتماعية التي ظل يئنُّ تحت وطأتها المواطنين، وكذلك تردي أحوالهم الاقتصادية والمعاشية وفقدان كل أمل لهم في التغيير والإصلاح وفوق هذا وذاك، هناك سلوك البطش والقمع الذي اختارته هذه الدولة كطريق وحيد لكسر إرادة المواطن وسلب حريته وكرامته وحرمانه من أبسط حقوق المواطنة ومن شعور بإنسانيته، وهو ما أجبر هؤلاء المواطنين على اختيار طريق الثورة والحراك الشعبي لتغيير هذا الواقع المفروض عليهم.
هنا نحن في الحقيقة نستخدم وصف (الدولة) مجازاً لأنها في واقع الأمر هي دولة غائبة لا حضور لها، أو أنها مجرد حالة افتراضية، أو صورية في أحسن أحوالها، بمعنى أن حضور الدولة هنا ناقص ومتعثر بل مشوه نظراً لغلبة الوظيفة السلطوية على هذه الدولة، واتساع الهوة بين الحكام والمحكومين، فالسلطة هي المركز أو المحور الذي تدور من حوله ومن أجله كل المقومات والمكونات الأخرى. لذلك هي لا تتردد في وضع يدها على كل الفضاءات أو المجالات العامة، وأن تصبح هي «المكان» و«الزمان» و«التاريخ» وهي من يكتب هذا التاريخ ويرويه أيضاً. مع كل ما في هذه الرواية من مغالطات وظلم. وهل ينتظر أي شعب تكون دولته أو سلطته بهذه المواصفات غير التقهقر السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي؟
هنا في مثل هذه الدولة (السلطوية) يتحول جهاز الأمن إلى جهاز للقمع والسيطرة والمراقبة وبث الفرقة والانقسام بين مكونات المجتمع.
في مثل هذه الدولة (السلطوية) يجري التحكم في كل المجالات في السلطة والثروة والجيش والأمن والإعلام إلى الثقافة والحركة النقابية والاتحادات الطلابية والفن والرياضة، باختصار لا يبقى مجال عام أو خاص لم يتم السيطرة عليه أو التحكم فيه وإخضاعه للمراقبة.
وهنا أيضاً في مثل هذه الدولة (السلطوية) أيضاً يقترن عادة الفساد بالاستبداد، ويقود أحدهما للآخر، فالفساد هنا ليس دوره أو وظيفته توسيع القاعدة الاجتماعية للنظام السياسي القائم وتوسيع الفئات المستفيدة والمتواطئة معه. كما إنه ليس مجرد نهب لموارد الدولة وثرواتها الطبيعية أو الثراء غير المشروع من قبل المتنفذين في السلطة، كما أن الفساد ليس مجرد تنامي بعض الظواهر الاجتماعية الخطيرة مثل المحسوبية والواسطة والرشوة، إنه فوق كل هذا هدم لبنية المجتمع وضرب كل الأسس القانونية والقيم الخلقية فيه، من خلال التلاعب بالقانون والقضاء والتشريع الذي يبرر الاستبداد ويعيد إنتاجه، وهذا ما يقوّي إصرار هذه الدولة على رفض أية مطالبات مشروعة من أجل الحرية والعدالة، الأمر الذي يؤكد الارتباط الوثيق بين الفساد والاستبداد، وهي الحقيقة التي شخّصها الكواكبي قبل ما يزيد على القرن في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» عندما اعتبر أن الفساد السياسي هو أصل الداء، وأن أي إصلاح قبل الإصلاح السياسي هو مجرد لغو لا قيمة له.
ما نريد أن نخلص إليه هو ان الحراك الجماهيري المتصاعد هذه الأيام ، هو معني أساساً بإعادة الاعتبار إلى مكانة ودور الدولة «وسد النقص فيها»، بإسقاط النظام القائم وإقامة نظام بديلا عنه قائم على دولة مؤسسات وقانون، لأن مثل هذه الدولة هي حجر الأساس وقاعدة انطلاق أي مجتمع نحو آفاق التطور والإصلاح الديمقراطي، لذلك فإن هدف كل ثورة شعبية وكل حراك شعبي كما يعلمنا التاريخ والحاضر، هو إعادة تصحيح العلاقة بين الدولة والمواطن، من خلال «عقد اجتماعي» جديد، يقوم على ركيزتين أساسيتين. الأولى: إصلاح الدولة لتكون دولة مدنية عصرية ديمقراطية تسود فيها العدالة وقيم المساواة وحقوق الإنسان. والثانية: صياغة نظام سياسي جديد ليكون نظاماً ديمقراطياً وتعددياً.
باختصار، إنه عقد اجتماعي يعالج نقص الدولة ونقص المواطنة على حد سواء، لأن هذا الأخير هو نتاج للأول بصورة حتمية. التحية لكل الشرفاء الذين يتقدمون الصفوف في داخل الوطن وخارجه من اجل عهد جديد.


Share on Google Plus

عن المدون gazalysidewalk.com

هنا نبذة عن المدون ""
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 comments:

إرسال تعليق