بعيدا عن النوستالجيا : هل هناك حقا وطن اسمه السودان؟

                        
 عثمان نواي
كما سيذكر العديد من المحتفلين رأس السنة كأحد أجمل أيام حياتهم، ستظل هذه الأيام في ذاكرة أناس آخرين هي الأسوأ التي تمر بحياتهم. يقول جارسيا ماركيز اننا لا نذكر ابدا الأشياء كما حدثت بل نذكرها كما نريد نحن تذكرها، اي ان ذاكرتنا هي ذاكرة اختيارية غير حقيقية أو غير موضوعية . ولكن الجانب الآخر من المشهد متعلق أيضا بقدرتنا على رؤية الصورة الكاملة للاحداث من حولنا، أن لا تنحصر النوستالجيا للماضي في الأحداث التي أثرت فينا فقط لنقيم زمننا أو حقبة ما على أنها كانت أفضل من غيرها.

نحن في السودان معروفون بالقدر الهائل جدا من الحنين إلى الماضي في ثقافتنا وحياتنا ككل، ابتداءً من الشعر والغناء وحتى السياسة. فالامس الذي ذهب كان دائما أفضل، وياريت ويا حليل زمان، تكاد تكون شعارا للثقافة السودانية في النظر إلى ماضيه فكل ما قد ذهب كان أجمل. هذه النوستالجيا الوردية وضعتنا في موقف متوهم للغاية تجاه ماضينا وتاريخنا وأصبحت لدينا رؤية سلبية جدا تجاه مستقبلنا. ولكن إذا نظرنا إلى ماضينا بعيدا عن هذا الحنين وبقدر من الموضوعية والجدية سنرى الأمور من منظور مختلف تماما. فالسودان في ماضيه لم يكن ابدا أفضل من حاضره، لا كدولة ولا كشعب. فإذا كان البعض يذكر ايام الرخاء في الستينات والخمسينات، فإنهم يتجنبون تذكر أن تلك الفترة أيضا كانت فيها بداية الحرب في الجنوب وبداية الأخطاء في تقسيم السلطة والثروة التي أدت إلى كارثتنا اليوم، بل أن الرخاء الذي تنعم به البعض كان في الحقيقة سلبا لحقوق آخرين لم يحصلوا على نصيبهم من الصحة أو التعليم أو التوظيف. هذا المثال يمكن تطبيقه بسهولة على فترات تاريخنا المعاصر والقديم. هناك جانب آخر متعلق بهذه الذاكرة الاختيارية والحنين الوهمي وهي أن هذا التصوير الوردي للماضي يجعل اي محاسبة للمسؤولين عن الكثير من الجرائم التي ارتكبت في تاريخنا أمرا صعبا ومستحيل الحدوث. وليس أقرب مثالا من نميري الذي ثار ضده الشعب ثم لم يقدم لمحاكمة واحدة على جرائمه ألتي أقلها قوانين سبتمبر الجائرة وتعذيب المعتقلين وإعدام المعارضين ناهيك عن حرب الجنوب، ولكن الرجل استقبل كالأبطال ومات وكأنه رمز وطني. وليس مستبعدا بعد عشرين عاما أن يحصل البشير نفسه على هذه المعاملة.
ان بنية الوعي السوداني المبنية على هذا الحنين المنفصم والمسلمات الغيبية حول صحة وجمال الماضي يجب أن تتغير قبل حدوث المزيد من المفاجآت والكوارث، فلقد كتب المحجوب في الأربعينات " أن الجنوب منذ سنوات يتقبل الإسلام بصورة مدهشة" ترى ماذا كان سيقول لو شهد انفصاله ب 99 %من التأييد . وحتى لا نموت جميعا من دهشتنا قريبا حول المزيد من المسلمات والماضي الذي نذكره كما نريد وليس كما كان حقا، علينا أن نتوقف بجدية ونواجه حقيقة أن السودان لم يكن ابدا أفضل في الماضي كما أن كونه وطنا وأننا أمة عربية أو أفريقية، هو أمر لم يحدث بعد، ولذلك وبعيدا عن الماضي وحنينه واوهامه علينا التوقف والتساؤل بشجاعة هل نريد أن نكون سودانيين، وكيف يجب أن يكون شكل هذا السودان ومن منا يريد أن يكون جزءا منه. ان انفصال الجنوب كان هو الربيع الثوري السوداني والذي حطم مسلمات وحدة هذا البلد. والآن علينا أن ندرك أن الجنوب ليس الاستثناء، ولكنه يمكن أن يكون القاعدة، ليس لأن الغرب تامر علينا، بل لإننا صدقنا ما أردنا نصدق حول أن هذا البلد وطن واحد. وكون السودان الوطن والأمة موجود اصلا. في اعتقادي مواجهة هذه الحقيقة أو الفرضية أن شاء البعض، هو فرصة تدعو للتفاؤل وتمنحنا مساحة لرؤية المستقبل. فيمكن أن تختار مكونات السودان الجغرافية والأثنية المختلفة ممثلين لها ويجلسوا مثل الاباء المؤسسين في أمريكا ويقرروا من البداية إذا ما كانوا يرغبون في البقاء معا وبكل براغماتية تراعي تماما مصالح تلك المجموعات وطموحاتها المشروعة، وبموازين قوة واضحة نختار جميعا البقاء معا أو لا. لا يجب أن يكون تقرير المصير القادم حول انفصال جزء من السودان يجب أن يكون تقرير المصير لكل السودانيين حول ما إذا كانوا يريدون أن يشكلوا معا وطنا يضمهم وأمة تجمعهم. نحن الآن في القرن الحادي والعشرين، يتم اختراع كمبيوترات بالغة الدقة بحيث انها سوف تستبدل جزء من خلايا ادمغتنا، فإذا كان العالم يقفز على التطورات البطيئة للتاريخ البشري فلما لا نختصر العشرات من السنين من الحروب والدمار، ونتوقف عن الحنين والتوهم ونواجه الواقع والماضي بعقل مفتوح ونتخلي عن ذاكرتنا الاختيارية المثقوبة. فعلنا نصنع لأنفسنا وطنا كما ينبغي للاوطان أن تكون.

Share on Google Plus

عن المدون gazalysidewalk.com

هنا نبذة عن المدون ""
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 comments:

إرسال تعليق