بقلم / آدم جمال أحمد - أستراليا
تنتظم الساحة السياسية
السودانية هذه الأيام تماوجات هنا وهناك ، ويسود المناخ السياسى النوبى الراهن جو مشبع
بالتوجس والترقب والحذر والتفاؤل ، تبدو فيها جبال النوبة (جنوب كردفان) كاْنها موعودة
بحراك سياسى وإجتماعى إيجابى فى الأيام القادمة ، وخاصة فى ظل قرارات مجلس التحرير
الأخيرة ، والتى وجدت إرتياحاً وتأييداً كبيراً ، بإعتبارها خطوة إيجابية فى الإتجاه
الأمثل ، لتصحيح مسار الحركة الشعبية ، والتى تحتاج الى المزيد من الخطوات الأخرى ،
لإجراء عمليات جراحية لتصحيح الكثير من المسائل التى لها علاقة بقضايا المنطقة والتنظيم
والخط السياسى وإستراتيجية التفاوض والمؤسسية ، فالحركة الشعبية بعد قرارات مجلس التحرير
كأعلى سلطة تشريع أقرب الآن الى السلام من أى وقت مضى ، ولكن إشكالية الأمور وتعقيد
الأوضاع فى جبال النوبا هى الأغرب فى ظل غياب أى رؤية أو إستراتيجية واضحة لأبناء النوبا
بالحركة الشعبية للتعامل مع قضيتهم والبحث عن حلول لوقف الحرب الدائرة ، فى ظل غياب
(المؤسسية والقيادة) ، فمشكلة جبال النوبا ليست حديثة عهد بحكومة الإنقاذ ولا هى وليدة
اللحظة بقدر ما هى تراكمات سياسية وإقتصادية وتقاطع لعناصر التاريخ والجغرافيا فى منطقة
هى الأشد حساسية فى تركيبتها الإثنية وتداعياتها الجيوبولتيكية ، حتى برزت على سطح
الأحداث مرة أخرى (صراع مصالح الكبار) ، لأن عبد العزيز الحلو نفسه لم ينتفض بل أجبر
على الإستقالة نتيجة لضعف ، والتى حاول بها إستدرار عواطف أبناء النوبة للتعاطف معه
، لأن ما طرحه فى المطالبة بحق تقرير المصير ، ينم عن قصر فى التفكير والفهم .. وخطل
يجافى حقائق الجفرافيا ومكونات التاريخ والسكان
بجنوب كردفان ، أحد ركائز ودعائم الدولة السودانية الأساسية ، فشعب النوبا هم أصل السودان
وتاريخهم مرتبط بتاريخ السودان والذى لا يقبل التجزئة ، فلذلك ما طرحه الحلو ما هو
إلا مزايدة يريد أن يقدم شئ جديد وهو يعلم يقيناً بأنه من المستحيلات مما يجعل الوضع
أكثر تأزماً وتعقداً .. رغم أن المنطقة تمر بأزمة عميقة ومتزايدة تشمل كافة جوانب الحياة
السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتنموية ، مما أقعدت بالولاية عن ركب التغيير والتقدم
إسوة برفيقاتها من الولايات الأخرى .. لمسح أثار الحرب والدمار الذى لحق بها .. وتضميد
الجراح وجمع الصف وتوحيد الكلمة لإحداث ثورة فكرية وطفرة تنموية وعمرانية .. لإنتشال
مواطنى الولاية من براثن الواقع المرير المعاش ، وعدم إنجرار أطراف من أبناء النوبا
فى لعبة أكبر من أن يديروها أو يكونوا مؤثرين حقيقيين فيها ، نظراً للتضاغط الحاصل
بسبب تعدد الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة فى هذا الصراع ، ولعل المراقب لما يجرى
فى المنطقة يجد أن ثمة لائحة طويلة من أسباب النزاع القائم فى عدم وجود أى بوادر حل
للأزمة ، التى تبدو أنها مرشحة للتفاقم أكثر فأكثر فى المستقبل القريب.
لذلك سوف أقوم بالتعقيب على بعض ما جاء فى بيان مجلس التحرير – إقليم جبال النوبا
.. فى عجالة تتعلق .. بحق تقرير المصير وتفويض عبدالعزيز الحلو .. لتوضيح بعض الحقائق
ووضع النقاط فوق الحروف لتصويب هذه الأفكار التى سمت فى الأونة الأخيرة وأصبحت متفشية
بين أوساط البعض من أبناء النوبا ، والتى لا تخدم قضية وهى عبارة عن إستهلاك غير موفق
خاصةً فى ظل التطورات السياسية الجارية الآن فى السودان ومدى تأثيرها إيجاباً على مستقبل
جبال النوبا ، ولا سيما الدولة مقبلة على تنفيذ مخرجات الحوار ، ولا شك بأنها سوف تساهم
بقدر كبير فى تغيير الخارطة السياسية فى السودان بعد تكوين الحكومة الجديدة ، إذا أرد
النوبا أن يحتفظوا لأنفسهم بمكان على خارطة الوطن الذى يتشكل الآن ، فإن أول شروطها
المكان (شمالاً) , لأن جبال النوبا جزءاً أصيلاً من الشمال الجغرافى .. من خلال التالى:
أولاً: الدعوات التى ظهرت تطالب بحق تقرير المصير تعتبر دعوات مثبطة للهمم لا
تدفع الى التلاقى والبناء الفكرى ، ولا تساعد على قيام العمل المنوط بدوره فى توحيد
شعب جنوب كردفان بمكوناته الإثنية على أهدافه حول قضياه المصيرية ، فالمعروف فى الممارسة
السياسية أن المطالبة أو المناداة بحق تقرير المصير لجنوب كردفان لا يمكن أن يجرى فى
ظل تباين حاد فى المواقف وخلافات حادة بين قادة الحركة الشعبية (الثلاثى) ، مع وجود
تجربة فاشلة لدولة (جنوب السودان) ، والتى تثير الحسرة والندم ، فلذلك أجزم بأن عبد
العزيز الحلو مارس تكتيكاً خطيراً للغاية ومغامرة سياسية حتى لو كان قصده رفع سقف المطالب
، ولكن لا أظن ذلك لأن الحركة الشعبية قطاع الشمال الآن منقسمة وغير متماسكة من حيث
بنائها التنظيمى ، وهى فى أضعف حالتها بالإضافة الى المتغيرات الإقليمية والدولية ،
فلذلك أن أى مطلب فى هذا التوقيت بحق تقرير المصير يعتبر عملة غير صالحة للتداول فى
السودان على الإطلاق ، كما أن المطلب نفسه سرعان ما يجعل من يطالبون به عرضة للخروج
من الملعب السياسى ، لعدة إعتبارات لأن منطقة جبال النوبا (جنوب كردفان) لا تختلف ثقافياً
وجهوياً عن مجمل مناطق السودان ، ولا تمتلك الخصوصية ذاتها التى كانت تميز جنوب السودان
الذى منح حق تقرير المصير ، وحتى أن الجنوب نفسه بعد الإنفصال إكتشف انه يعانى من تنافر
المكونات الإثنية وتمايزها بحيث بات هو نفسه بمنطق الصراع الدائر فيه الآن عرضة للتقسيم
بدواعى المغايرة والخصوصية لكل قبيلة فيه ، فلذلك أن التنوع الإثنى والثقافى الذى يذخر
به السودان هو مكمن قوته ، قد أدرك كل شعبه بعد رؤيتهم لنموذج (الجنوب) ، بأن عنصر
التعايش والإصرار على التجانس أدعى للقوة والتماسك بأكثر من أى شىء آخر ، وحتى المجتمع
الإقليمى والدولى نفسه الذى حصد مرارة الندم على إنفصال الجنوب لم يعد يتقبل هذه الفكرة
، فليس من المنطق أو المعقول إنه كل من حمل السلاح من أى منطقة من مناطق السودان يرفعون
شعار تقرير مصيرهم !.. فكل دول العالم فيها هذه المغايرة والخصوصية كأمر طبيعى ناتج
عن أسباب ديموغرافية طبيعية ، الأبيض بجانب الأسود والأسمر بجانب الأصفر والمسيحى بجانب
المسلم والوثنى ، هذه هى أسس التنوع الثقافى والتعدد والتباين.
فلذلك الحديث عن حق تقرير المصير لجبال النوبا ما هو إلا هرطقة سياسية لن تفيد
فى الأمر شىء ، فقواعدهم مثبتة شمالاً تاريخاً وجغرافية مهما حاولت الحركة الشعبية
ومنسوبيها جرها وفق خرائط جديدة تتشكل فى مخيلتهم ووعيهم الزائف .. سنكون لهم بالمرصاد
حتى يعودون الى رشدهم .. وأن إيماننا الراسخ بوحدة السودان بكافة تنوعه وتباينه الكبير
دون تمييز لكيان أو قبيلة أو هوية أو ثقافة بإعتبارنا كلنا سودانيون لن يتزعزع ، وأننا
على يقين بأن الشعب السودانى كله يرزح تحت نير الظلم والإستبداد ولكن فى جبال النوبا
أمر .. ولكن سكان جنوب كردفان على وعى كامل بأصولهم العشائرية ويفتخرون بذلك فما الضير؟؟!!
، ولكنهم لم ينظروا الى أنفسهم كمجموعة منفصلة عن الإطار الكبير للقومية السودانية
، والنوبا أهل السودان الأصليون عليهم التعامل مع الجميع بسياسة الإنفتاح على الآخر
وتقبله والتعايش معه فلا نفى لوجود أحد ، فلذا ندعوا الجميع للتعايش السلمى فى جبال
النوبا ، فلا لجوء للمطالبة بحق تقرير المصير
، لأن السودان ملك للنوبا والأخرون وجمعيهم شركاء فيه للتعايش سلمياً بمختلف أعراقهم
الإثنية وتباينهم الثقافى والدينى فى ظل سودان واحد يسع جميع أبنائه هذا هو فهمنا كشريحة
واعية ومثقفة من أبناء النوبا مصالحون مع أنفسنا ، ولم نشعر يوماً ما بأننا أقل مرتبة
من الآخرين ، وإذا كان منسوبى الحركة الشعبية يستشعرون بأنهم أقل شأناً من الآخرين
فهذه كارثة ، فبدل وضع المتاريس ندعوا النوبا البحث عن وسيلة تدعم توحد مشاعرهم كقومية
ضمن السودان الواحد تلتف حول قيادة سياسية
لكى تستلهم هويتها وإرثها الحضارى دون إنعزال عن التيار الوطنى العام ، ولا سيما أن
قيادات الحركة الشعبية تعلم بأن منطقة جبال النوبا منطقة تلاقح لأعراق مختلفة حيث تضم
جبالها وسهولها المجموعات النوبية والمجموعات العربية والمجموعات الأفريقية الوافدة
، قد شكلت بذلك بوتقة ونموذجاً للتعايش السلمى والتمازج القبلى ، وأن النوبا ليست قبيلة
واحدة وإنما هى مجموعات تتباين فى كثيراً من العادات والتقاليد واللغات ، وتعتبر التركيبة
الدينية المكون الأساسى الثانى للبنية الاجتماعية فى منطقة جبال النوبا بعد القبيلة
، وأن المنطقة تمثل قنطرة عبور للاسلام والثقافة العربية بين الشمال والجنوب ومن ثم
الى بقية أنحاء القارة الأفريقية.
فيجب أن نكون واقعيين بأن شعب جبال النوبا شعب عريق وصاحب حضارة ضربت بجذورها
في أعماق التاريخ لحقب من الزمان ، وهناك تداخل لكثير من مفردات اللغة لبعض المجموعات
النوبية القاطنة فى شمال منطقة جبال النوبا مع النوبيين فى الشمال وتشابه حتى فى الأسماء
والعادات والتقاليد والعوامل النفسية التى تمكنهم من التعايش والتفاهم بيسر نسبة للتقارب
النفسى والوجدانى والسيكولوجى بينهما لأن طابعها التجاذب .. ونشاهد ذلك في حياتنا العادية
.. فيجب بأ ن لا نغالط ونخدع أنفسنا !!.. وإذا إفترضنا جدلاً إنفصال منطقة جبال النوبا
.. أين يذهب أهالى منطقة تقلى العباسية فى الجزء الشمالى الشرقى من الجبال والتى تمتد
جنوباً حتى منطقة رشاد .. وهم وحدهم الذين أشتهروا بإمتلاك أحسن الوثائق التاريخية
بسبب الصلات القوية التى كانت تربطهم بمملكة الفونج (السلطنة الزرقاء) فى سنار ، وهى
التى شهدت ميلاد مملكة تقلى حوالى عام 1570 كأول (كيان نوبي سياسى) قام بالمساعدة فى
إنتشار الدعوة الإسلامية فى المنطقة وهم بدورهم الآن رافضون لتوجهات الحركة الشعبية
.. فلذلك الذى يحاول ربط المنطقة بحق تقرير المصير ما هو إلا مكابر يركض وراء أحلام
زائفة ، وهذا ما يعنيه حق تقرير المصير التنازل عن السودان الموحد أرض الأباء والأسلاف
، فلذلك نحن النوبا نفضل أن نظل ضمن الشمال بحدوده الجغرافية ، رغم التجاوزات التى
حدثت أفضل بكثير .. ولكن من يهن يسهل الهوان عليه.
ثانياً: بات الكل يخشى بأن تؤدى هذه التحولات المتسارعة داخل الحركة الشعبية
، وما تم من تفويض لعبدالعزيز الحلو أن تكون هى الكارثة وإستمرار مسلسل الحرب والموت
، فتعيد تجربة تفويض جون قرنق ونكوصه من العهد الذ قطعه على نفسه حينما تم تفويضه فى
مؤتمر كاودا الشهير الذى أثار جدلاً واسعاً
، فى سابقة هى الأولى من نوعها فى العمل السياسى ، فكان مسمار النعش على القضية
النوبية وأكبر خطأ تاريخى وإستراتيجى بشهادة وإعتراف القيادات التى حضرت المؤتمر نفسه
، فماذا كان نصيب أبناء جبال النوبا من هذه المفاوضات؟ كان حصادهم حبالاً بلا بقر وذراً
للرماد فى العيون!!.. فلذا سبب الفشل هوعدم التخطيط السليم وعدم وجود إستراتيجية واضحة
ورؤى موحدة وكيان قوى خاص لأبناء النوبا وضعف القيادة والشخصيات التى كانت تمثل النوبا
فى التفاوض وعدم تمسكهم بالمطالب التى من أجلها حمل النوبا السلاح ، وإفتقارهم الى
الشخص السياسى الذى له بعد نظر للمسائل وقراءة صحيحة لمجريات الواقع .. حتى خرجت نيفاشا
بقنابل مؤقوتة .. والتى بموجبها خسر أبناء النوبا مرتين ، عندما كانوا هم العمود الفقرى
لحركة قرنق طوال سنوات الحرب التى خاضوها بأسم السودان الجديد ، ولما وقعت إتفاقية
نيفاشا لفظتهم الحركة الشعبية وتنكّرت لهم وأعطتهم ظهرها وإنكفأت على الجنوب غير مبالية
بهم ، فلم يعى أبناء النوبا الدرس، حتى إندلعت الحرب الثانية ، والتى ما زال الإختلاف
حول جدواها مهما كانت مبرراتها وأسبابها.
وفى الختام: حل قضية جبال النوبا تحتاج من القائمين على أمر البلاد الى محاولة
إعادة قراءة القضية وفقاً للملامح الأساسية لمسبباتها ، لأن هناك تعتيم متعمد ضرب على
قضية جبال النوبا منذ البداية ، ، فكان له الأثر الكبير فى عدم إتاحة الفرصة لقراءتها
بطريقة منطقية ، وخاصة ما صاحبها من تشويش مخل ومربك ، والذى أدى الى تعذر الرؤية الواضحة
للأسباب الحقيقية والأساسية ومآلات ذلك ، والى قرار شجاع وإعتراف بقضية النوبا من رئاسة
الجمهورية ، والى خطاب يغوص فى أعماق واقع المنطقة بشجاعة بحثاً عن أسباب المشكلة وجذورها
ووضع الحلول الناجعة دون وضع قنابل مؤقوتة وإجراء تسوية سياسية نهائية مع أبناء النوبا
، وتطبيق مبدأ التمييز الإيجابى .. والذى أقره الحوار الوطنى من خلال الوثيقة والورقة
التفصيلية للتمييز الإيجابى لمنطقتى جبال النوبا والنيل الأزرق ، والتى قدمها أبناء
النوبا والنيل الأزرق ، الذين شاركوا فى الحوار ، وجاءت ضمن التوصيات ومخرجات الحوار
، فيجب على الحكومة والحركة التمسك بها ، والعمل على تحقيق السلام لمحو الآثار السالبة
والسيئة للحرب ، نتيجة لتراكم عوامل التخلف والتهميش المقصود وغير المقصود لكسر الحاجز
النفسى وإزالة الغبن ووضع خطط وبرامج منهجية ووطنية لإحداث تنمية شاملة ومتكاملة فى
كافة المرافق الخدمية والتنموية وتوزيع الخدمات الضرورية للمواطن بصورة عادلة تحفظ
له حقوقه فى التنمية وتوزيع السلطة من حيث المناصب فى الاتحادية والولائية والسيادية
، وكذلك فى مجال الثروة القومية ، حتى يتحقق للنوبا المشاركة الفاعلة والعادلة فى السلطة
والثروة والخدمات الأخرى ، مما يولد الشعور
والإحساس بالثقة لدى أبناء النوبا والرضا التام لتجاوز مرارات الماضى والقبول بمبدأ
العيش تحت سقف السودان الدولة الموحدة التى تسع جميع أبنائه بهذا التباين والتنوع ،
وأخذ الحيطة والحذر من حق تقرير المصير .. الخطر القادم.
وإلى لقاء فى مقال آخر .......
آدم جمال أحمد – سيدنى – أستراليا - 9
أبريل 2017 م
0 comments:
إرسال تعليق