الدكتور النور حمد.
شكراً يا محمد
تحياتي وتمنياتي بالصحة والرفاه لك وللأسرة الكريمة
وكل عام وأنتم بخير
أردت أن أعلق على مقالك الأخير في صحيفة اليوم التالي: “بعد الدوحة حصار الخرطوم … لم لا؟”
أعجبني المقال لأن فيه خروجاً على التفكير من دائرة الصندوق المنحصر في الخيار بين السعودية وقطر. غير أن المقال، من وجهة نظري، لم يذهب إلى المدى المطلوب. وهذا من وجهة نظري بطبيعة الحال. وأنا لا أتوقع، ولا ينبغي لي، أن أتوقع، أن تطابق أفكارك أفكاري، فقط أردت أن أتبادل معك عصفاً ذهنياً.
من وجهة نظري، لو كانت الأمور تسير وفق ما ينبغي أن تسير عليه، فإن صراع الدول الأربع مع قطر يقع في نطاق ما ليس لنا فيه ناقة ولا جمل.
أراك استعنت بالسيرة السودانية “المفخمة” بغير حق، فيما أرى، التي تشمل مؤتمر اللاءات الثلاث، وصلح عبد الناصر والملك فيصل، واقتحام نميري للوغى في الأردن في أيلول الأسود، والدعم السوداني الثابت للقضية الفلسطينية. من وجهة نظري، كان كل ذلك مجهوداً في غير محله. فحين قام المحجوب بدور الوسيط واللاّم للشمل العربي، لم يكن الثقل السياسي السوداني آنذاك، هو الذي وقف وراء ذلك الجهد، بقدر ما كان الاشرئباب النخبوي السوداني لنيل الإجازة من العرب. والتهافت السوداني النخبوي لنيل إجازة العرب ورضاهم نهج دأبت عليه النخب التقليدية السودانية، من الآباء المؤسسين، ومن ساروا بهديهم من بعدهم، منذ مؤتمر الخريجين وعبر مسيرة الكفاح نحو الاستقلال، وعبر اختطاف الناصرية، ومن ورائها الشيوعية الدولية، لغالبية أصوات النخب العلمانية في كل أقطار العالم العربي. ولقد انتهت كل تلك الحقبة إلى هزائم متكررة وفشل وتراجع متواصل في الحق الفلسطيني، ثم إلى فراغ عريض أصبحت تملؤه قطر والتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، في حين تقف في وجه محاولة ملء الفراغ الإخوانية تلك، وبشراسة شديدة، كل من السعودية والإمارات، بلا فكر وبلا تاريخ وبلا معرفة، وإنما بمال البترول، لا أكثر. وقطر التي تمثل اليوم مظلة للإسلاميين لا تملك ما يؤهلها للقيادة سوى مالها وأحلام قادتها الشاطحة ونصائح مستشاريها الحالمين. ولقد كنا نحن الضحية الأكبر في كل هذا الهوس العربي والغوغائية العربية المتطاولة. فدول الشمال الأفريقي العربية لم تصدق كل تلك الترهات، وإنما تعاملت معها بالحيلة والمداراة، والتقية، فسلمت إلى حد كبير من الهرج والمرج، باستثناء ليبيا التي أدخلها القذافي في لوثة القومية العربية، وأحلام الوحدة الشاملة الهلامية. أما فلسطين والعراق وسوريا فهي، كما ترى، غارقة في دم ودمار وتخريب ممنهج، ما له من قرار. بل أضيفت إلى مسلسل الخراب اليمن. ولا شيء يمنع أن يأتي دورنا نحن في السودان، كما تفضلت. بل لقد اقترب دورنا.
لقد منحتنا الحالة العربية الراهنة، شواهد قوية على خطورة المنزلق القادم، وفرصة تاريخية، كان ينبغي، من وجة نظري، أن تقودنا إلى التفكير في أصل العلة. وأصل العلة في تقديري هو الانجرار الطويل في متاهة المحاور العربية المتقلبة، منذ حلف بغداد، وحقبة الناصرية والبعث. ثم الابتعاد الطويل عن التركيز في قضايا الداخل، والارتكاز في إقليمنا وفي رسم استراتيجيتنا الخاصة بنا، غير المستتبعة لأحد، وغير الملحقة بأحد. وكذلك، النظر العميق إلى المصلحة الوطنية السودانية.
نحن لا نختلف عن تشاد، ولا عن أريتريا، ولا عن إثيوبيا، في طبيعة علاقتنا بالعالم العربي. فقط نحن اخترنا أن نكون في جامعة الدول العربية ما جعلنا، نتيجة لتفاعلات عاطفية فجة، مشغولين بشؤون العرب أكثر من انشغالنا بشؤوننا، وهي بناء دولة ما بعد الاستقلال. لقد انزلقنا في أتون الصراع العربي الإسرائيلي، في وقت كان ينبغي علينا فيه أن نهتم ببناء دولتنا. وهكذا، فقدنا قرارنا السياسي واستقلال رؤيتنا الاستراتيجية الخاصة بنا، التي ينبغي أن تقوم على موازنات تغلب فيها مصلحتنا الوطنية. وكل أولئك إنما كان بسبب تصورنا الخاطئ، في ما أرى، لذاتنا ولانتمائنا بسب جهلنا بتاريخنا وبالمميزات الفارقة لثقافتنا ونسيجنا الاجتماعي.
أوافقك الرأي، في أن العاصفة تتجمع لتعصف بالسودان. غير أن المخرج لا يكون إلا بمراجعة شاملة تعيد موضعة علاقاتنا بالعالم العربي في أطار المصالح المتبادلة لا أكثر. ما تبشر به قطر العالم العربي وتنفق المليارات من أجل تحقيقه، ظل متحققا لدينا في السودان منذ 1989، كما رأينا طرفا منه في عام محمد مرسي في مصر. فماذا جنينا من تجربة الإسلاميين في السودان غير التشظي والتراجع والخراب وسوء السمعة الدولية؟ خلاصة الأمر، لابد من خروج السودان من جامعة الدول العربية، ومن الدوامة العربية المشرقية المهلكة المدمرة، وموضعة استراتيجتنا في إطار القرن الأفريقي وشرق أفريقيا. لقد تنكبنا هذا الطريق المنجي منذ أن اخترنا جامعة الدول العربية على كمونويلث شرق أفريقيا تحت العباءة البريطانية. ويبدو لي أننا مكتوب علينا، طال الزمن أم قصر أن نعود لنقطة الانزلاق تلك لنصحح المسار من جديد.
مع عميق مودتي وتقديري
د.النور حمد
اليوم التالي
0 comments:
إرسال تعليق