ستات الشاي: فدائيات حروب أرصفة المدن

عثمان نواي
يعد السودان ثاني دولة في العالم من حيث إعداد النزوح الداخلي للسكان، بعد سوريا، ومؤخرا أصبح ثالثا بعد تقدم داعش في العراق قبل 3 سنوات. ولكن السودان ظل متربعا على عرش هذه القائمة منذ بداية الحرب في الجنوب وفي دارفور من بعد ذلك. حزام الخرطوم الأسود الذي يقطنه الان ما لايقل عن 5 ملايين من النازحين والذي تحول إجباريا من معسكرات إلى أحياء سكنية عشوائية أو غير عشوائية، ولكنها في النهاية لا تزال هي الحزام الأسود، حزام الفقر والقهر والنزوح والعنصرية الممنهجة. سميت تلك المناطق بالحزام الأسود لا للإشارة كما ذكرت هنا لبؤس وسواد ليالي وأيام ساكنيها لكنها وللأسف سميت كذلك نسبة لحقيقة لا يمكن أن ينكرها احد سميت كذلك (لسواد بشرة ساكنيها). أنها رمزية بل وحقيقة العنصرية الممنهجة من قبل الدولة بل والمجتمع أيضا ،و التي جعلت تلك المناطق عبارة عن مدن الصفيح التي تمد العاصمة باليد العاملة الرخيصة التي تم تكديحها قسرا لكي تخدم مدينة الخرطوم وبقية المدن الكبرى.
عند بداية الحرب الأخيرة في جبال النوبة في 2011، أعلن والي جنوب كردفان المجرم المطلوب دوليا أحمد هارون انه لن يسمح بتكرار الخطأ الذي ارتكب في دارفور وأنه لن يسمح بقيام معسكرات في الولاية ولا في اي ولاية مجاورة. وكانت تلك سياسة الدولة التي تبنتها كافة الولايات وأولها الخرطوم. حيث منع أكثر من نصف مليون نازح حسب التقديرات من الحصول على أي مساعدات إنسانية في الخرطوم. واضطرت آلاف الأسر التي كانت تسكن اصلا في الحزام الأسود تحت عروش الفقر اضطرت أن تعول العشرات من الأقارب الفارين من الحرب. والآن وبعد مضي 6 سنوات على الحرب وعندما يتساءل المرء أين ذهب أولئك النازحين بالآلاف؟ الإجابة بسيطة لقد انضموا إلى جحافل البائسين والأيدي العاملة الرخيصة في الحزام الأسود.
لقد أجبر نظام الخرطوم النازحين من جبال النوبة وبقية مدن السودان، خاصة بعد الإنفصال على العيش في عاصمة بلدهم ولكن في حالة من الرعب والخوف. تحول النزوح إلى وصمة عار ولم تقبل المدارس الطلاب من مناطق النزوح الا بعد معاناة كبيرة. واضطر الرجال والشباب إلى الهرب خوفا من قمع الشرطة والأمن التي كانت ولا تزال تقوم باستخدام القوة المفرطة من ضمنها الرصاص في أي منطقة من أحياء الحزام الأسود. وأصبحت النساء وحدهن في الواجهة، وخرجن في فدائية قمة في الشجاعة الي أرصفة الشوارع حيث لم يسعهن غير الشارع اي مكان في هذا الوطن البائس.
خرجن بالألوف يقاتلن وحدهن معيلات لآلاف بل ملايين الأسر، حيث أصبح الفقر والظلم والإبادة والعنصرية والفساد هو سمة هذا البلد تحت هذا النظام. خرجن يقاتلن نظرة المجتمع الدونية لهن، يقاتلن في وجه تحرش الشارع بهن وقمع الشرطة وظلم قوانين النظام العام وجشع المحليات. ورغم ذلك أصبحن رمز المدينة، وأصبحت الخرطوم عاصمة ستات الشاي بلا منازع. فلكل مدينة رمزية ثقافية تمثلها، فالقاهرة مشهورة بالقهاوي مثلا، وكذلك ستات الشاي هن الان جزء من ثقافة المجتمع السوداني وممارساته اليومية. لكن كعادة سكان المركز لا يريد احد أن ينظر إلى هذه الظاهرة بخلفياتها المؤلمة والعملية ذات الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تشير إلى أزمات السودان كدولة عنصرية لا تحترم سكانها وتميز ضدهم على أساس اللون والدين والجندر والأثنية والوضع الاقتصادي، الدولة السودانية تمارس ببساطة كافة أشكال انتهاكات حقوق الإنسان ضد شعبها وتأتي ستات الشاي كمثال واقعي لهذا التمييز المركب. فهن نساء اولا وثانيا معظمهن من مناطق الحروب ومن اثنيات أفريقية وبالتأكيد هن فقيرات. هذا التمييز المتعدد الأوجه يهزم حلم التعدد والتنوع بكل أشكاله ويحرم السودان حتى من إبداع مواطنيه في مواجهة هذا الظلم المتجذر.
نعم ستات الشاي هن مبدعات ابتكرن وسيلة لكسب العيش في ظل القهر المزمن وجعلن من معاناتهن رمزا ثقافيا لعاصمة خالية من البهجة ومن الحياة. لكن هؤلاء الفدائيات المحاربات هن أيضا يواصلن القتال في وجه نفس النظام الذي ضرب قراهن بالانتنوف، فهو هنا يضربهن بالسياط والحرمان من مصدر الرزق ولو حتى في أرصفة الشوارع. ما يجري هذه الأيام لستات الشاي من قمع ممنهج ومنع العمل وقهر منظم هو وجه آخر للابادة والتطهير في السودان والتمييز المركب الذي ينقل الحرب إلى رصيف الشارع ضد النازحين الذين تم تجريدهم من قبل من كل ما يحفظ كرامتهم من أرض ومسكن وشبكات حماية اجتماعية في مناطقهم الريفية الأصلية. وتواصل ستات الشاي بفدائية وشجاعة قتال نظام الفساد والقتل حماية للالاف من اسرهن، في مقاومة يومية ومستمرة لدولة القمع المركب والتمييز.
Share on Google Plus

عن المدون gazalysidewalk.com

هنا نبذة عن المدون ""
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 comments:

إرسال تعليق