أكتوبر : الثورة التي لم يتبقى منها سوى هزيمة الثورة



عثمان نواي
لا شك أن عهد عبود العسكري كان أحد أهم منطلقات الكوارث السياسية التي ألمت بهذه البلاد. ليس فقط لأنه اول حكم عسكري وطني بدأ هزيمة الديمقراطية، بل لأنه أيضا كان نقطة بداية الصراعات الدامية في الجنوب وبداية حركات المقاومة هناك بالتحرك بشكل عسكري منظم في رد مباشر على قمع النظام العسكري الموجود في المركز. فجزء كبير من أزمة النظرة السلبية الحالية للحركات المسلحة في السودان ، كونها تتجاهل حقيقة أن السودان دولة حكمها العسكر لأكثر من 50 عاما من فترة استقلاله التي لم تتعدى 60 عاما. ولذلك فإن حركات المقاومة في المناطق المضطهدة والمهمشة في السودان كانت رد فعل للنظم العسكرية الموجودة اصلا في المركز، حيث لم يكن لها خيار سوى التعامل مع المركز الحاكم سوى باللغة التي يفهمها.
في الوجدان السياسي السودان والفكر التنظيمي لبعض التوجهات السياسية كانت ولا تزال ثورة أكتوبر نقطة الارتكاز في تثبيت انتصار تاريخي يثبت فعالية تلك التنظيمات. فالنجاح كما يقولون هو ابن الجميع، وكذلك ثورة أكتوبر تبناها اليسار واليمين معا، كما هو حال ثورة أبريل، حيث يتبنى الإسلاميين كما اليسار وبقية القوى الأخرى انها هي التي حركت تلك الثورات. لكن التاريخ يظل دوما هو الحكم على التغييرات الكبرى التي تجري في مسيرة الأوطان والشعوب. وبعد نصف قرن من ثورة أكتوبر تجد الأجيال التي ولدت ما بعد الثورة نفسها في موضع التساؤل عن ما حدث. ليس تساؤل حول من قام بالثورة، ولكن حول آثار ونتائج تلك الثورة.
تاريخيا هناك الكثير من الجدل حول حوار المائدة المستديرة ومخرجات ألفترة الديمقراطية القصيرة ما بعد الثورة، خاصة على مستوى الصراع السياسي الكبير في السودان بين الهامش والمركز. فقد شهدت فترة الديمقراطية ما بعد الثورة اول توجه إسلامي رسمي للدولة السودانية بعرض تبني الدستور الإسلامي، والذي كان يعني إنهاء لامال المناطق المضطهدة والمهمشة اثنيا ودينيا في بناء دولة ديمقراطية تسعهم. كما ان إشتعال الحرب بشكل أكبر ومنظم عبر حركة انانيا 1 وقمع الأصوات التي عارضت الدستور الإسلامي من اليسار والتكوينات الإقليمية من جبال النوبة والجنوب والشرق ودارفور، قد أدت في النهاية إلى الحكم بالإعدام على التجربة الديمقراطية والثورة نفسها. وأتى حكم عسكري أكثر قسوة في فترة لم تتجاوز 5 سنوات. إذن فإن ثورة أكتوبر التي يتغنى بها الكثيرون لم يتبقى منها سوى تلك الاغنيات والأشعار. ليس فقط لطول المدة التي تفصلنا عنها الان، ولكن لأنها ثورة لم يكن لها تأثير واقعي في تغيير مسار السياسة السودانية في المركز، خاصة اتجاه المناطق المهمشة، بل استمر الصراع ما بعد الثورة واشتد في الجنوب مع انفلات السلطة السياسية في المركز وعجزها عن تقديم حلول حقيقية. ان الثورات حتى التي تفشل تترك خلفها تلك اللحظات التاريخية العظيمة المرتبطة اما بالتضحيات التي قامت بها الشعوب، أو بالتغييرات التي أحدثتها الثورة.

اما ثورة أكتوبر فقد كانت ثورة بيضاء تماما سلمية إلى أكبر حد، لذلك فإن الذاكرة الشعبية قد لا تربطها بالتضحيات. أما آثارها، فإن الأجيال التي لم تشهد تلك الثورة، لم تجد لها أثرا على الواقع يربطها بها وجدانيا. فقد ولدت تلك الأجيال كلها تقريبا، ما عدا مواليد الفترة من مايو 1985 الي 29 يونيو 1989 في ظل حكم عسكري ديكتاتوري وقمع ممنهج. لذلك ليس لهذه الأجيال الان مرجع أو ارتباط بهذه الثورة سوى عبر ذاكرة من عاشها. ولكن تظل حركة الشعوب نحو التحرر من القهر هي حركة أبدية وحتمية، وكما يبدو فإن الشعب قد غضب في أكتوبر كما في أبريل وأخرج الحكومات العسكرية. لكن هزيمة ذلك الشعب الثائر نفسه تمت على أيدي من استلموا البلاد بعد الثورة وضيعوا امال الشعب في حياة حرة كريمة. بل إنه يبدو أنه من الآثار السلبية الاقوي لثورتي أكتوبر وابريل على الشعب السوداني ككل، هو الهزيمة الداخلية السريعة على أيدي السياسيين الذين حكموا ما بعد العسكر، الأمر الذي أصبح يشكل حالة من الصدمة النفسية الجماعية للشعب تجاه فكرة الثورة نفسها. فأصبح الشعب السوداني يشكك في الثورة على أنها مخرج ناجح ووسيلة تغيير، بناءا على ذاكرة الهزائم ما بعد ثورتي أكتوبر وابريل. لذلك قبل تمجيد نضال الشعب في أكتوبر علي الأجيال التي حكمت ما بعد أكتوبر، وكثير منهم موجودين أحياء إلى الان، ولا زالو يحاولون التأثير في مسار السياسة السودانية، عليهم أن يقفوا امام محكمة التاريخ بعد نصف قرن من الثورة، التي بددوا ما كانت تحمل من أمل في مهده. واما الأجيال الشابة فليست ثورة أكتوبر بالنسبة لهم سوى أدب ثوري مستلف من حقبة تاريخية قد مضت بلا أي أثر مباشر يسهم في تغيير مصيرهم ومصير وطنهم، بل بالعكس يبدو أن هذا التاريخ الثوري الذي أعقبته هزيمة الثورة، أصبح يشكل للذاكرة الشعبية السودانية حاجزا نفسيا يعوق اي حراك جماهيري ثوري. حيث أن تاريخ تلك الثورات التي مضت أصبح تاريخ الفترات الانتقالية بين حكم عسكري واخر وليس تاريخ التحرر والديمقراطية كما كان يحلم ذلك الشعب الذي ثار.

Share on Google Plus

عن المدون gazalysidewalk.com

هنا نبذة عن المدون ""
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 comments:

إرسال تعليق