تقرير المصير واستعلاء السلطة الأبوية لنخب المركز التاريخية


عثمان نواي
في مقال مقتضب واشبه بالبيان التحذيري منه بالمقال كتب الصحفي المخضرم محجوب محمد صالح حول أطروحات تقرير المصير لجبال النوبة قائلا  :( إن تقرير المصير حق فقط لجنوب السودان بحدود 1956، وأن جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان جزء من شمال السودان الموحد). وبهذه العبارة التقريرية قد حدد الاستاذ محجوب ليس فقط رأيه الشخصي بل حكمه النهائي لمصير المنطقتين، بل وأردف أكثر من مرة موضحا أن هذا هو أيضا موقف المعارضة في المركز من طرح تقرير المصير للمنطقتين.
هذا المنشور بتاريخ 18نوفمبر بعدد من المواقع الإلكترونية، استعرض موقف الحركة الشعبية الحالي وحذر القيادة من الحركة التي تطالب بتقرير المصير من أنها لا يمكن أن تعتبر مطلب تقرير المصير حقا مكفولا أو مقبولا حتى ليتم طرحه في طاولة التفاوض. خاصة وأن ما أسماها (بالقوى السياسية السودانية) في إشارة كما يبدو للمعارضة بشكل عام كما ذكر المقال في مكان آخر، ان تلك القوى لن تدعم هكذا توجه، نحو تقرير المصير.
الحقيقة أن الأستاذ محجوب رجل له خبرة طويلة في الوسط السياسي ومن رموز الصحافة واليسار والنخب إلتاريخية في المركز. وهذا البيان التحذيري الصادر منه بلغة شديدة التركيز على ما هو صحيح وخطأ بشكل ابوي وسلطوي، هو أحد انعكاسات الدور السلبي لهذه الأجيال من نخب المركز التي ظلت تمارس سلطة ابوية وامتيازات في فرض ارائها على الآخرين بإلغاء تام لوجودهم. فالذين اختاروا السير في طريق المطالبة بتقرير المصير لهم رؤيتهم وأسبابهم، وهناك من يختلف معهم في أن مطلب تقرير المصير ربما يكون مطلب صعب المنال أو حتي انه سقف أعلى من المطلوب، ومن أصحاب هذا الرأي بعض أبناء المنطقتين. فاختلاف وجهات النظر حول قضية ما ليس هو المشكلة على الإطلاق. لكن الأزمة هي في هذا الخطاب الأبوي السلطوي والاستبعادي والاستعلائي الذي لا يعترف للآخر حتى بحقه في المطالبة بتقرير المصير اي كانت نتائج هذه المطالبة على المستوى العملي.
فافتراض الغباء والجهل في هذا الآخر وعدم قدرته على معرفة مصلحته بنفسه هو في الحقيقة احد اسباب البعض في رغبتهم في تقرير مصيرهم. اولا لكي يتحرروا من سيطرة هذه النخب التاريخية التي لا زالت تصر على أنها لديها مفاتيح العلم والرأي ولديها رؤي هادية مستبصرة لا يملكها سواها. فعقلية الفكي التي تتعامل بها هذه النخب من هذه الأجيال في المركز، هي إحدى أهم العوائق امام انفتاح الحوار حول خيارات صعبة للمستقبل وذلك بعد مواجهات أصعب مع الواقع والتاريخ المرير لهذه الدولة السودانية التي أسهمت هذه النخب نفسها إلى إيصالها إلى هذه المرحلة من الانهيار.

فالجدير بالنخب والمثقفين الحريصين على الوطن والذين يريدون أحداث نقلة نوعية وقطيعة تاريخية وتغيير حقيقي، أن يقفوا باحترام وموقف أخلاقي وضمير إنساني واعي حينما يطالب شعب تتم أبادته بتقرير مصيره. فأين هي تلك النخب وتلك القوى السياسية واين مواقفها من مآسي الحروب والإبادة حتى يكونون هم مرجعية لتجيز لهذه الشعوب أو بعض ممن يمثلونها إذا كان من حقهم أن يطالبوا بتقرير مصيرهم أم لا؟ ماذا فعلت هذه القوى السياسية لوقف الحرب ومتى وقفت هذه النخب مواقف حقيقة لدعم هؤلاء الذين يقتلون كل يوم.؟ وهنا الدعم لا يعني ابدا بيانات الشجب والادانة ومقالات التضامن عند سقوط الضحايا. بل الدعم بالعمل الحقيقي والفعال والجاد والذي إذا وجد لما تمكن نظام الانقاذ رغم ضعفه من الحكم 28 عاما تحت نظر هذه النخب وتلك القوى السياسية التي لم يعد حتى أعضائها يستجيبون لدعواتها الهزيلة للخروج على النظام. ان تقرير المصير مطلب لا شك له تحديات عدة وربما ستكون حوله الكثير من النقاشات والجدل، ولكن ليس من حق أي احد ان يقرر بالنيابة عن أهل المنطقتين ما إذا كان من حقهم أن يطالبوا بهذا الحق.
وختم محجوب مقالته بعبارة تحذيريه قائلا :(ولهم في الأزمات التي يعيشها جنوب السودان الآن درس وعبرة !) لقد أصبح تقرير مصير جنوب السودان والحرب الأهلية هناك أشبه لبعض نخب المركز بنقطة انتصار ذاتية لهم تقترب من الشماتة. لكن وان كان ما يحدث في الجنوب مروعا ويستحق التوقف عنده، الا ان ما يحدث الآن لأهل المنطقتين داخل ما أسماه محجوب بالسودان الموحد، ليس أقل ترويعا. والجنوبيين الان يقتلون بعضهم نعم، ولكنهم يقتلون بعضهم وهم يشعرون بالمساواة كأعضاء متساوين في داخل وطن واحد في صراع قبلي يجري مثله بشكل مستمر بين قبائل دارفور العربية مثلا ويقتل العشرات و المئات طوال السنوات الماضية. لكن الصراعات بين الفرق المتساوية تجد حلا ما في لحظة يصنع توازن في القوى يرضى الجميع. لكن الصراع الذي كان بين الشمال والجنوب لم يكن ابدا بين فرق متساوية، وهذا هو الحال الآن في الصراع في المنطقتين. فهو صراع بين دولة تقتل شعبها وبين شعب يحاول حماية نفسه من تلك الدولة. هو أيضا صراع بين مجموعات أثنية مهيمنة ونخب مستفيدة من أمتيازات سياسية واقتصادية ومجموعات أثنية مستغلة ومستبعدة ومضطهدة. عندما تكون هذه هي خريطة الصراع فإن الأطراف المتصارعة غير متساوية وأيضا الحلول المحتملة ستكون دائما في صالح الطرف الأقوي. هذا اذا لم يتنازل أصحاب الامتيازات عن عروشهم والنخب عن سلطاتهم الأبوية المتوهمة ويعترفوا بحقوق الآخرين في الاختيار والقدرة على معرفة مصالحهم. والا فإن الوطن الواحد الذي يتحدث عنه محجوب لن يبقى واحدا الا في كتب التاريخ واحلام تلك النخب (التاريخية) . 
Share on Google Plus

عن المدون gazalysidewalk.com

هنا نبذة عن المدون ""
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 comments:

إرسال تعليق