قسوم والطار : تيارات جديدة لإعادة إنتاج الثقافات السودانية






بقلم عثمان نواي
لمن لا يعرف قسوم فهو موسيقى وعازف عدد من آلات الإيقاع الحديثة والقديمة ومن بينها الطار. اشتهر كجزء من الأداء الموسيقى لعدد من ألمغنيات النساء وبقدرته على إشعال الموسيقى الراقصة في المناسبات الخاصة عبر إيقاعات الطار التي لها مرجعية موسيقية نابعة من إيقاعات الظار المعروفة بصخبها وقوتها ذات الطابع الافريقي . لكن قسوم شاب متعدد المواهب ورائد أعمال ناجح ومصمم وفنان مبدع أيضا في جوانب أخرى. فهو لديه رؤية فنيه في إعادة تقديم التراث السوداني الموسيقى، إضافة إلى ثقافة الطعام وشرب الجبنة على الطريقة السودانية، وتقديم كل ذلك في قالب محدث من من التصميم المتنقل لعرض متكامل يشمل الغناء والرقص وتقديم خدمات الطعام والقهوة في المناسبات والمهرجانات الخاصة وحتى في المحافل الدبلوماسية والثقافية.
من زفة العرسان إلى تقديم فطور العريس مصحوبة بعروض من الرقص وديكور متنقل ذو طابع تراثي ممزوج بالحداثة يقوم قسوم بعملية مبدعة في إعادة مزج وإنتاج ثقافات سودانية شعبية متعددة ويقدمها في قوالب جديدة ومختلفة. الموسيقى البهيجة وألوان الجر تقول الزاهية والرقص الشعبي المصاحب للعادات التقليدية في تقديم الجبنة والطعام البلدي السوداني جعلت العرض الذي يقدمه قسوم عبارة عن حزمة وجرعة ثقافية متكاملة لتذوق طعم تقاليد متنوعة والاستمتاع بالرقص على أيقاعات عديدة في منتج بهيج يصنع الفرح والسعادة من هذا التنوع الثقافي السوداني من الطعام إلى الموسيقى إلى الملابس إلى المجسمات التي شملت جلسات سودانية على شكل راكوبة متنقلة مصحوبة بكل زخم المنتجات السودانية المحلية التي تصنع تفرد لهذا البلد شديد الغني والتنوع بشكل يفوق تصورات معظم السودانيين.
الأمر المثير للاهتمام أن قسوم أو أبو القاسم، هو لم يتخرج من أي من كليات الفنون ولا الموسيقى ولا التصميم. ولم يكتب لا مقالات ولا كتب عن الثقافات السودانية ولا التنوع ولم يتحدث عنها في الإذاعة ولا التلفزيون. انه شاب مبدع وفنان يستشعر دقات الطار والطبول التي هي نبضات الشعب السوداني على اتساع نطاق تنوعه الثقافي. ان قسوم بالتأكيد لم يسأل نفسه ولا الآخرين عن سؤال الهوية، ولكنه بالتأكيد قدم إجابات مبدعة وعملية وجميلة بل ومربحة أيضا لما يسمى بسوال أو جدل الهوية بالنسبة للنخب السودانية.
ففرقة قسوم ترقص وتغني على أنغام أغنيات الشايقية والحلفاويين وترقص على أنغام الكرنق وتعزف موسيقى الجلالات وطار الظار وتقدم الجبنة علي طريقة أهل الشرق مع بلح الشمال ونبق ولالوب الغرب ودارفور. ان المشهد المتنوع لثقافات السودان هو إحدى أهم فرص الاستثمار التي ضيعتها كل أنظمة السودان الحاكمة عبر إصرارها التعامل مع هذا التنوع كعبء لا كفرصة. ضيق أفق النخب واحاديتها مرجعياتها الفكرية ووعيها الزائف جعلها تخنق هذا التنوع وتحاول احراقه في محارق الحروب الأهلية والعنصرية والتمييز. ولكن ورغم كل ما جرى فإن ثقافات الشعوب السودانية وطابعها المتنوع وخاصة بعدها الأفريقي أشبه بطائر العنقاء الذي يحترق ثم يعلو نحو السماء من تحت الرماد.
ان هذه الأجيال الشابة الجديدة التي قدمت لها الإنقاذ تحديات الفقر والقهر والتجهيل، يبدو أنها عادت تبحث في جذورها بحثا عن وطن وعن امل وعن حقيقة لم لدي الأجيال السابقة الشجاعة لتمليكها لها بصدق. لذلك فإن عودة قوية تتبدي بين الأجيال الحالية نحو الثقافات السودانية الأصلية بعيدا عن الثقافة الرسمية المؤسلمة والمعربنة. حيث تتمرد هذه الأجيال على الإيقاعات البطيئة الحزينة وتعود إلى الإيقاعات الأفريقية الصاخبة من موسيقى الزنق الي طار الظار. وتبتعد عن الالوان الباهتة والأزياء المفروضة من السلطة إلى ازياء ملونة بشكل بهيج تبدأ من تلوين الجلابية وحتى العمة والمركوب والي انتشار ارتداء القميص الأفريقي الملون بشدة والذي يرتديه الجنسين بلا تحفظ.
ان هذه الأجيال التي فقدت كل شيء تبحث في الرماد عن آثار الطريق إلى الأمام لكن عبر العودة إلى الجذور وبتمرد كامل على الحاضر والماضي القريب المصطنع من قبل الحكومات النخبوية منذ الاستقلال. فهذا الجيل تجاوز فعليا سؤال الهوية وحكم على نفسه بافريقانية موسيقاه وملبسه وحتى لغته التي اصبحت عبارة عن أكواد خاصة بعيدة عن اللهجة العامية السودانية. هناك حالة تمرد واسعة وتغيير ثقافي حقيقي على الأرض في السودان هو التغيير الحقيقي. انه عملية التواؤم مع القمع والتمرد على خواء المشاريع السياسية التي فشلت في صناعة دولة يعول عليها الشباب ويحترمون ما تقدمه لهم في القوالب الرسمية لمفاهيم الهوية الوطنية والثقافية .
ان هذا التوجه نحو الاحتفاء بالتنوع السوداني واستثماره ثقافيا وإبداعيا وحتى اقتصاديا، والاتجاه بقوة نحو افرقة متزايدة للثقافة السودانية لهذه الأجيال، عملية تلقى نجاحا كبيرا على عكس محاولات شبيهة جرت في السبعينات والثمانينات تم قمعها ومحاربتها من قبل الدولة والنخب الأحادية التفكير التي لا تريد للتنوع الثقافي السوداني ان يخرج إلى السطح خاصة بطابعه الأفريقي. فرياضة كرة السلة التي كان يمارسها الجنوبيين نسبة لطبيعة أجسامهم المناسبة لشروط هذه الرياضة إضافة إلى مجموعة كبيرة من السودانيين من مناطق مختلفة، لم تترك لها مساحة للنمو ولم ترعاها الدولة. وموسيقى الجاز التي كانت رائجة في فترة معينة وفرق عديدة كانت تغني موسيقى الجاز أيضا اختفت في ظل زيادة التوجه الاسلاموي الذي يحد من حرية الإبداع ويمنع الاختلاط وغيره. ومن ثم ماتت هذه المحاولات لاستثمار التنوع الثقافي في السودان في تلك الفترة خاصة مع بداية قوانين سبتمبر ومن ثم قدوم نظام الكيزان.
لكن إذا كانت الأجيال السابقة قد عانت في محاولاتها لجعل التنوع الثقافي في قلب الحراك العام في السودان، فقد كان ذلك لأنها كانت تسبح عكس تيارات قوية تمكنت من انهائها. لكن يبدو أن الأجيال الحالية إنما تصنع تيارات وموجات وموضات جديدة خاصة بها أجبرت التيارات العامة إلى الدخول في تلك التيارات الجديدة. نسبة لقوتها إبداعيا ونسبة أيضا لفشل محاولات الدولة السودانية الأحادية فرض ثقافتها وقمع هذا التنوع ، والذي ظل يحفر في الجدار حتى قام عبر هذه الأجيال بإعادة إنتاج نفسه في قوالب معاصر تشبه الواقع المعاش وتعبر عن تنوعه وقسوته أيضا . ربما أيضا حركات النزوح الكثيف نحو العاصمة الخرطوم من كل أطراف السودان المشتعلة بالحروب أو تلك التي تم إفقارها قد أدى إلى أن تتحول العاصمة إلى محفل حاشد التقت فيه هذه الثقافات المتنوعة وانتهت إلى الاتفاق السكوتي على أنها يمكن أن تستفيد من هذا الغني الثقافي الضخم بدلا عن أن تجعله سببا للصراع كما فعلت النخب السياسية الفاشلة .
ان قسوم هو مجرد مثال واحد لتجارب سودانية شابة عديدة تحارب إحباطات الوطن الغارق في أوهامه السياسية بحلول تستلهم الجوانب الثقافية باعتبارها مخزون الخبرات الحياتية المتراكم الذي مكن شعوب السودان المختلفة من العيش والاستمرارية قبل حتى قيام الحكومات ونظام الدولة. تلك الثقافة والخبرة التي أعانت شعوب الشعوب السودانية على التغلب على الأخطاء الجسيمة من قبل النخب الحاكمة. والتي صنعت معاناة مستمرة لشعوب السودان عبر فرض رؤيتها المتعالية الأحادية اللون والعاجزة عن صناعة المستقبل أو احتضان تنوع وتعقيدات الحاضر. لذلك فإن الشباب من أمثال قسوم وصناع موسيقى الزنق وأصحاب برامج الكوميديا على مواقع التواصل الاجتماعي والإفواج الغفيرة من الشعراء والمصممين والمصورين والمنتجين، إنما يقومون بشكل يومي بعملية تغيير عميقة لوجه السودان وإعادة إبداع وإنتاج الثقافة السودانية. هؤلاء الشباب مدفوعين برغبتهم في الحياة وتحررهم وتمردهم الصاخب، ثقافيا وليس سياسيا بالضرورة، على النظام والدولة السودانية الأحادية والمجتمع المنغلق التقليدي، هذه الأجيال تحقق ثورتها وتصنع تغييرها بالفعل الذي على السياسيين التعلم منه والنظر اليه بجدية ومحاولة التعلم منه أن استطاعوا.

فالكيزان ومشروعهم الحضاري الاستثماري لم يستطيع أن يصمد أمام أيقاعات الموسيقى الصاخبة ولا تقليعات الملابس الأفريقية والغربية الملونة التي يرتديها أبناء الكيزان أنفسهم قبل بقية الشعب. فحتى قوانين النظام العام لم توقف هؤلاء وهم قد اخترقوا الإعلام الرسمي والخاص. ومن إنجازاتهم انهم انهوا عمليا عصر الحجاب الإجباري ، فلا توجد محجبات الا في التلفزيون القومي ولكن حتى التلفزيون القومي لا يفرض الحجاب على الضيوف كما اعتاد سابقا . إذن فإن ما تغير في السودان والقوة التي تقوم بالنخر بقوة وذكاء في بنية الدولة السودانية التقليدية هم هؤلاء الشباب وهذه المجموعات التي تغير ثقافة المجتمع وتبني مشهد لسودان متنوع ثقافيا ومتصالح مع تنوعه. لا يغرق في اسئلة الهوية بل يمارس هوياته المتعددة بشجاعة ويعتبرها استثمار اقتصادي بقدر ماهي روح ثقافية جماعية ووطنية. لذلك على النخب التي تسعى لقيادة المستقبل أن تعي ان التنوع الثقافي والبيئي هو ثروة تستثمرها بجدية دول مثل الصين والهند وماليزيا وكوبا وتحولها الي مورد سياحي و أيضا منتج وطني يجمع شتات المجموعات المتنوعة في كيان متوحد مزدهر وفخور بتنوعه وبتاريخه ومتطلع إلى مستقبله، ولن يكون هناك مساحة لأي قيادة سياسية أو تغيير في السودان غير قادر على استيعاب هذه الحقائق وتقبل ما جرى فعليا في البلد من تغييرات مجتمعية وثقافية عميقة.
nawayosman@gmail.com 



Share on Google Plus

عن المدون gazalysidewalk.com

هنا نبذة عن المدون ""
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 comments:

إرسال تعليق