الشعب السوداني والتكيف مع أخلاق الجنجويد والدعم السريع

بقلم عثمان نواي

على مدى الأيام الماضية توالت نكبات متتابعة عنوانها العنف والتعذيب وانتهاك كرامة الإنسان في مشاهد من أقصي مما يمكن تصوره لما وصلت إليه حالة الانهيار الأخلاقي في المجتمع السوداني. فالبداية كانت من خلال انكشاف حقيقة أن عمليات تعذيب المهاجرين السودانيين في ليبيا تتم في الحقيقة بقيادة سودانيين آخرين ظهروا في توثيقات مؤكدة على ممارسة هذه الجريمة اللانسانية في انحطاط تام للأخلاق في عملية مثيرة للاشمئزاز من التكسب من معاناة وآلام وعذابات الآخرين.
ثم ظهرت خلال اليومين الماضيين صور وفيديو آخر لعملية القبض على بعض سارقي المنازل في إحدى الأحياء السكنية، حيث تمكن المواطنين من القبض عليهم أثناء ممارسة السرقة، ومن ثم تمت عملية ضربهم واستجوابهم بطريقة مهينة تنعدم فيها نوازع احترام كرامة الإنسان وان كان سارقا أو مجرما. وهنا لا نبرر لارتكاب الجريمة اي كان نوعها أو حتى دوافعها، لكن العقاب أيضا له أصوله القانونية التي يجب أن تحافظ على الأحد الادني من الكرامة، فالإنسانية والروح البشرية لها حق لا يجب إنكاره. وقبل عدة أسابيع لم تكن عملية تعذيب الشابين من منطقة العسيلات حتي الموت بعيدة عن هذه السلسلة من الانحطاطات الأخلاقية وانهيار القيم في المجتمع السوداني.
اولا وقبل الخوض في النظر بعمق لهذا العنف الممنهج يجب التأكيد على أن هذا العنف وهذا القتل والتعذيب وحتى التأديب، لم يكن ابدا على يد أجهزة الأمن ولا قوات الشرطة أو الجيش أو الدعم السريع، لقد كانت كل هذه الممارسات والتي ترقى إلى مستوى الجرائم، جميعا مارسها مواطنين أعضاء في هذا المجتمع السوداني. وهو ما يدعو إلى وجوب الوقوف والتساؤل بجدية عن مدى الانهيار القيمي والاخلاقي الذي وصل إليه المجتمع السوداني خلال 30 عاما من حكم نظام المشروع الحضاري. ان منظومة الفساد الحاكمة للبلاد قد وصلت هي نفسها إلى الدرك الأسفل من التدمير لكل مكونات القيم والأخلاق في السودان.
فقد أصبح القتل والتعذيب والاغتصاب والنهب والسلب هي الوسائل الشرعية والمقننة للكسب السريع والأغتناء. وأصبح الاتجار في كل شيئ من العملة إلى المخدرات إلى البغاء إلى تجار البشر في شكل استرقاق أو اختطاف هي موارد للمال وفهلوة في التكسب من دون أي وازع اخلاقي أو ديني أو قانوني بالطبع. ولما لا، فإن كانت الدولة نفسها تقوم على نظام تشغيل آلاف الشباب في جهاز الأمن بأعلى المرتبات في الدولة سواء كان لديهم مؤهلات ام لا لكي يقوموا بتعذيب الناس وترهبيهم علنا في الشوراع أو في داخل معتقلاتهم. واذا كان النظام يوظف شباب مناطق وقبائل بأكملها مثل ماهو حال الجنجويد سابقا والدعم السريع حاليا، ويقدم لهم أعلى الحوافز المالية إضافة إلى الحوافز الأخرى التي من ضمنها استحلال هتك الأعراض كجزء من غنائم ومحفزات الانضمام لقوات الدعم السريع والجنجويد في دارفور وغيرها. حيث أن الاغتصاب الممنهج في دارفور ما هو في الحقيقة الا جزء من مرتبات وحوافز المقاتلين. فبعد أن نفدت مبررات القتال في الجنوب ضد الكفار غير المسلمين وانتهى عهد المجاهدين في سبيل الله والذين كان لديهم على الأقل امال في الآخرة ودوافع ربما لها بعض القيمة ولو كانت خاطئة أو مزيفة، الا انه بعد انتهاء الحرب في الجنوب وبداية حرب دارفور كان قد انتهى مبرر الجهاد الإسلامي وبدأت مبررات النهب والعنصرية والبحث عن الكسب السريع كاهم دوافع المقاتلين هناك.
هذه المنظومة من الفساد الأخلاقي والقيمي التي ينجو فيها سارقي المليارات من الأموال العامة عن طريق (التحلل) وهو المبرر الذي قام بتحليل الاعتداء على المال العام وجعله ممارسة لا يعاقب عليها القانون حتى. وبعد 30 عاما من حكم الإنقاذ فإن الدولة والمجتمع السوداني قد وصل إلى مرحلة ما بعد الانهيار. فالمنظومة نفسها، اي منظومات الأمن والجيش وحتى تنظيمات الكيزان أصبحت منقسمة ومفتتة. وأصبحت الفوضى التي نراها على المستوى السياسي والاقتصادي هي مجرد رأس جبل الجليد. ان الواقع المزري الذي تبينه الظواهر الإجرامية التي يقوم بها أفراد في المجتمع السوداني إنما هي مؤشرات على أن مرحلة انهيار الدولة قد انتهت وأننا الان نعيش مرحلة ما بعد الانهيار. فعندما تتدني قيمة الإنسان وتصبح ممارسات العنف والاضطهاد والقتل والاغتصاب بما في ذلك اغتصاب الأطفال، الذي هو من أبشع الجرائم التي انتشرت بشدة مؤخرا، عندما يقف المجتمع بأكمله صامتا في وجه هذه الممارسات من بعض أفراده فإن هذا يدل على أن حالة التكيف مع انعدام القيم والأخلاق قد وصلت إلى حد جعل الشعب يعيش لامبالة كاملة تشل قدرته على الرفض والتحرك وبالتالي قدرته على التغيير.
فقبل الحديث عن التغيير السياسي وإسقاط النظام، لما لا تقف النخب السياسية والثقافية السودانية لترى هذا السقوط المدوي في اخلاق وقيم المجتمع السوداني، ابتداءا من قاسم بدري مرورا بحميدتي وانتهاء بياسر مختطف ضحايا ليبيا. فهم جميعا يمثلون على مستويات مختلفة درجات الهاوية السحيقة التي وقع فيها المجتمع السوداني بأكمله. فإذا كان بعض أفراد المجتمع قادرين على ارتكاب جرائم كهذه في ظل صمت وعدم حراك مجتمعي، فإن هناك أزمة في الضمير الإنساني اولا والوطني ثانيا. فإن مجتمعا وشعبا كهذا، تكيف واعتاد على هذا القدر من الفساد والعنف وانعدام الأخلاق ووصل الي هذه الدرجة من التواؤم مع انهيار القيم، هكذا شعب يحتاج ثورتين. ثورة على نفسه توقظه وتنقذه من هذه اللامبالاة وثورة أخرى على النظام اي كان.
ان غياب الوازع الأخلاقي الذي كرست له ممارسات النظام، قد وصل إلى درجة من السيطرة على المجتمع حتى أصبح ثقافة كاملة. فأخلاق النهب والسلب والتعذيب والاغتصاب ما هي إلا أخلاق أو هي في الحقيقة ( لااخلاقية) الجنجويد والذين أصبح اسمهم الدعم السريع كماركة تجارية أكثر قبولا للمجتمع الدولي. أن من المؤسف أن اسم الدعم السريع انتشر وقد أصبح للأسف الشديد مقبوللا اجتماعيا كرمز ثقافي محلي له معاني عديدة ابتداءا من جروبات النساء في الفيسبوك المسماة بالدعم السريع إلى أسماء المحلات والثياب وغيرها. ولم يجد حميدتي ومنظومته اللاخلاقية اي مواقف رافضة قوية من المجتمع ونخبه، فحتى الصادق المهدي عندما تحدث عنهم سوءا تم الزج به في السجن حتى صمت ولم يعد الي الحديث عنهم ثانية. وان كان كبار الساسة ونخبها صامتون فلماذا لا يصمت المجتمع ويحاول التكيف والتواؤم مع حقيقة أن الارتزاق عبر كل الجرائم اللاخلاقية ما هو إلا وسيلة للعيش و من أجل( الغني السريع) بنفس أساليب وأخلاق (الدعم السريع) . فإذا خاف المهدي من مرتزقة الدعم السريع المحيطين بخاصرة أمدرمان عبر إقامتهم في المهندسين وغيرها من المناطق السكنية ومعسكرات تدريبهم المنتشرة في كل الخرطوم، فلماذا لا يخاف بقية الشعب السوداني .
حيث أن سيطرة الدعم السريع عبر رجل مثل حميدتي بغص النظر عن تعليمه وثقافته، ولكن في مفاهيمه التي جعلت من الأرتزاق بالقتل والنهب والاغتصاب وسيلة للسيطرة على الدولة، فإن هذا المشهد هو ما يؤكد على أن نظام الإنقاذ نفسه الذي يريد البعض إسقاطه قد سقط بالفعل. فلجوء البشير الي المرتزقة من أمثال حميدتي لحمايته الشخصية وحماية نظامه إنما يدل على سقوط النظام بعد انفضاض سامر المجاهدين وكثير من الإسلاميين الذي جاهروا بفشل النظام. فالاسلاميين جميعا بما فيهم المتشددين من الاخوان وحتى الأجنحة السلفية المتطرفة بدأت تجاهر علنا بفشل النظام وبل بانهيار الدولة تماما. إذن النظام الكيزاني قد سقط فعليا على مستوى المشروع والممارسة، ولكن الأهم هو أن المجتمع السوداني أيضا قد سقط معه في هوة عميقة من التخلف والفقر والجوع والعنف وانهيار القيم وانعدام الأخلاق.
وفي ظل هذا الوضع الكارثي يصبح من الجدير بالقوى الواعية والمهمومة بالوطن أن تبحث عميقا في هذه الحالة الاجتماعية اولا قبل الوضع السياسي والاقتصادي. لأن أحوال الناس في حياتهم اليومية وعلاقاتهم الاجتماعية هي التي تخلق الروابط الجماعية التي تصنع الحراك المجتمعي نحو التغيير مهما كان حجمه سواء كان على مستوى قضية العنف المجتمعي ضد بعض الحرامية وحتى الوصول إلى القدرة على استعادة القوة الأخلاقية والقيمية للمجتمع حتى يتحرك لتغيير نظام سياسي كامل أو حتى بناء دولة. ان حالة اللامبالاة والتكيف مع (الاعوج) كما يقول أهلنا، كانت حتى الأمس يشكو منها اهلنا في الهامش من عدم تجاوب الضمير الجمعي الوطني مع قضايا الاغتصاب والقتل في دارفور مثلا وغيرها. ولكن الان الدعم السريع والجنجويد بأنعدام أخلاقهم وباسلحتهم الفتاكة من الرصاص إلى الاغتصاب والنهب والقتل، أصبحوا بكل عتداهم وممارساتهم اللاخلاقية في قلب الخرطوم وداخل القصر وفي كل ولايات السودان. وان حالة مابعد الانهيار التي تعيشها الدولة السودانية تجعل المعركة من أجل التغيير يجب أن تبدأ من استعادة الضمير القيمي والاخلاقي الجمعي للمجتمع السوداني، واخراجه من حالة التكيف إلى حالة الرفض لهذه الحالة من انعدام القيم والأخلاق. وبدون ذلك فإن أي جهود للتغيير هي جهود فوقية لا تلامس الواقع ولن تؤدي الا الي مزيد من الانحطاط والانهيار.

 Email : nawayosman@gmail.com
Share on Google Plus

عن المدون gazalysidewalk.com

هنا نبذة عن المدون ""
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 comments:

إرسال تعليق