السودان: الدولة تحت حصار القبيلة


بقلم عثمان نواي
ارتفعت في الأيام الماضية الأصوات التي تصف بل وتؤكد على أن ما يحدث هذه الأيام من صراع أجنحة وعمليات تصفية من المناصب وإزالة الكثير من الشخصيات التاريخية داخل النظام إنما هو شكل من أشكال الصراع القبلي في أقصى صوره. حيث يقوم صلاح قوش والذي يحظى بدعم من القيادات من قبيلته على رأسهم على عثمان محمد طه وعوض الجاز، يبدو ان الرجل يقوم بالتخلص من كثير من الوجوه داخل النظام من أبناء الجعليين. في الوقت الذي تحكم القيادات الأمنية وخاصة من الشايقية قبضتها على مفاصل الدولة.
وهذا المشهد للأسف ليس جديدا ولا بعيدا عن السياسة السودانية. فالقبيلة حاضرة بقوة داخل المشهد السياسي السوداني منذ ما قبل الاستقلال وحتى في تكوين الأحزاب الطائفية التي هي بدورها أيضا تعتمد على قواعد قبلية. ولكن في ظل نظام الإنقاذ تمت عملية استحضار وأحياء كامل للقبلية بشكلها التقليدي كأنتماء صارم لجماعة مغلقة وذات مصالح ذاتية مشتركة وذات حدود جغرافية وثقافية واجتماعية تجعلها كيان مغلق لا يمكن اختراقه من الخارج. وهذا ما جعل القبلية في السودان وفي عهد الإنقاذ تحديدا وكأنها هي الوحدة الأولية لهيكلة الدولة السودانية وليس المواطن الفرد. فبداية من إجراءات استخراج الأوراق الثبوتية للمواطنة التي تطلب التعريف بالشخص من خلال القبيلة وانتهاء بالامتيازات أو على العكس التمييز على مستوى السلطة الحاكمة، فيبدو أن القبيلة هي وحدة التكوين الأولية التي تمهد الطريق نحو المواطنة ومن ثم نحو عيش الحياة الكريمة ثم احتمال الوصول للسلطة أو تكوين ثروة إذا كان الافراد ممن ترضى عنهم القوي الأقدم والأكبر في قبائلهم.
ورغم أن تنظيم الإخوان المسلمين أو الكيزان في البداية ظهر وكأنه تجاوز مسألة القبلية عبر اشتراك سودانيين من مناطق مختلفة في ثورة الإنقاذ الوطني في أيامها الأولى سواء على مستوى الجيش أو الشخصيات المدنية، الا ان الأرتداد إلى القبيلة بعد فترة وجيزة من التمكين الذي حدث بعد منتصف التسعينات جعل العديد من المنتمين للحركة الإسلامية خارج القبائل المسيطرة يضطرون إلى الانزواء في الوقت الذي اختار بعضهم الهجرة أو التمرد على الدولة نفسها كما حدث لبعض القيادات الدارفورية. حيث أن عودة النظام الكيزاني إلى سيطرة قبائل معينة من المركز على سدة الحكم له دور كبير في إشعال الغضب الذي أشعل الحرب في دارفور بالتزامن مع المفاصلة وطرد الترابي ونشر الكتاب الأسود.
إذن فإن القبلية بشكلها الذي استمر في حكم السودان ظاهرة أو مستترة خلال حكم الإنقاذ وقبله بل ومنذ الاستقلال هي أشبه بالسرطان الذي يلتف حول جميع اوردة جهاز الدولة ويهدد بتحويلها إلى جسم خبيث قادر على بث سمومه لقتل كل المجتمع السوداني جزءا بعد الآخر من خلال التفرقة والتمييز والاحتكار القبلي للسلطة. وهذا ما حدث عبر الفترة الانتقالية ما بعد نيفاشا وادي لانفصال الجنوب الذي تم بتره نتيجة لتفاقم سرطان القبلية في الدولة. ولكن يبدو أن الجنوب انفصل حاملا خلايا ذات سرطان القبلية الأمر الذي جعله هو نفسه يحترق بها الآن. وهذا الحريق ألذي يدمر دولة الجنوب الوليدة هو الآن يهدد كافة أقاليم السودان، خاصة وأن الدولة و في أعلى قمة أجهزتها أصبحت القبلية هي مفتاح الصراع داخلها. وان هذا لمنعطف خطير إذا أضيف إليه مشهد المليشيات التي تم تأسيسها على أساس القبيلة، حيث لدينا مليشيات حميدتي من جهة ومليشيات موسى هلال من جهة أخرى حيث أن إطلاق سراح الأخير مؤخرا، هو أيضا يقع في إطار إشعال صراع قبلي آخر محتمل. بينما استفاد موسى هلال من صراع الجعليين والشايقية حيث أطلق سراحه قوش لكي يشكل مصدات طبيعية ضد مليشيات حميدتي التي يرعاها قيادات النظام من الجعليين وعلى رأسهم عمر البشير.
ومن المؤسف للغاية ان يظل السودان كدولة أسيرا لهذا الصراع القبلي بين مجموعات ضيقة ظلت تسيطر على الحكومة منذ الاستقلال باشكال مختلفة سواء في المعارضة احيانا أو الحكم احيان أخرى. حيث أن هذا الصراع الذي كان زمن نميري قد دخل فيه الدناقلة على الخط هو ما يجعل السودان يعيش حالة من الشلل الكامل وعدم القدرة على بناء مشروع وطني حقيقي يشمل كافة السودانيين. وللأسف الشديد أن هذه الصراعات بين مجموعات محدودة في داخل المركز لم تتمكن من الوصول فيما بينها إلى تسوية منطقية تحقق أي استقرار سياسي أو أي تنمية اقتصادية منذ الاستقلال. وبعد 62 عام من الاستقلال، وجب على هذه القوى القبلية ومن يمثلونها سياسيا على جانبي المعارضة والحكومة الوقوف جانبا والاعتراف بفشلهم الكامل في إدارة الدولة السودانية. فتجارب الديمقراطية والحكم العسكري والحكم الإسلامي جميعها فشلت تماما. حيث ان هذا الصراع القبلي كان دوما يدور في الخلفية. وحيث أن النخب الحاكمة عبر تاريخ السودان الحديث لم تقوم ابدا باتخاذ مواقف جادة تحسم دور القبيلة في إضعاف الدولة بل قاموا جميعا بلا استثناء باستغلال انتمائهم القبلي وقاموا باستغلال الصراعات القبلية للتخلص من معارضيهم ومنافسيهم ولو حتى داخل احزابهم السياسية. حيث أن القبيلة كما ذكرنا هي وحدة الانتماء الأولى في السودان وليس الوطن، وبالتالي فإن الحزب أو الطائفة أو المنظمة أو الجبهة أو أي تنظيم آخر غير القبيلة لن يعلو ابدا ابدا في لحظات الخيارات الحاسمة.
ان ما يجري الآن بين أجنحة الإسلاميين إنما يؤكد على هذه الحقيقة. ولذلك فإن الدولة السودانية ككل تحتضر الان تحت وطأة سرطان القبلية الذي يمتد مستشريا إلى أصغر مكونات الدولة والمجتمع. ولذلك فإن تنوع السودان او تحوله إلى دولة ديمقراطية حقيقية متطورة سياسيا واقتصاديا سيظل عسيرا دوما طالما أن هذه الجماعات المسيطرة على الدولة منذ الاستقلال تستمر في هيمنتها وتصر على أن لا تعترف بفشل كامل إستراتيجياتها في القضاء على الآخرين والاستفراد بالسلطة، حتى داخل المركز نفسه، ناهيك عن الهامش. كما أنها تظل لا تعترف بأن استراتيجية الهيمنة الأحادية وصراعاتها القبلية الداخلية قد دفع الشعب السوداني ثمنها غاليا. حيث انشغل الحكام بصراعات داخلية على أساس سيطرة القبيلة أو الاخري على مفاصل الدولة دون تقديم أي مشاريع تنمية حتى لمواطني قبائلهم الذين ظل معظمهم يعاني في كل هذه الأنظمة .
ان هذا السرطان القبلي الاحتكاري للسلطة في المركز يجب أن يتم استئصاله عاجلا قبل أن يقتل السودان ككل. كما أن مؤسسات الدولة يحب أن يتم تحريرها من هذا السرطان القاتل الذي يعيقها عن أن تكون دولة تخدم المواطنين بكل انتمائاتهم القبلية والدينية والأثنية. لقد مللنا هذه المسرحية المطولة من التجارب الفاشلة. ويجب على هذه النخب الحاكمة في المركز التي تستغل القبلية في التمكن من السلطة أن تعي أن هذه اللعبة قد دمرت السودان، وان اي مخرج للسودان نحو بوابة الخلاص يبدأ من إنهاء هذه الصراعات القبلية التي تقودها نخب غير وطنية، ويحب ان يتم تنحية القبيلة عن السياسة وحصرها في جانبها الاجتماعي والثقافي كجزء من مكونات المجتمع السوداني، ولكن ليس كمرجعية الحكم والمواطنة في الدولة السودانية، خاصة في إطار المركز المهيمن. و الذي ما زال يراهن في بقاؤه في الحكم على السند القبلي، حيث أن ما يقوم به صلاح قوش الان وبقية رهط الكيزان هو تجلى صادق للصراع الدائر منذ عقود على أساس قبلي داخل الدولة السودانية، ولكن بشكل مستتر ولكنه يظهر الان للعلن ليكتب نهاية ربما تكون مأساوية للدولة والوطن هذا اذا لم يقم الشعب الي ثورته محررا لنفسه ومنقذا للوطن.
02/26/18
nawayosman@gmail.com

Share on Google Plus

عن المدون gazalysidewalk.com

هنا نبذة عن المدون ""
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 comments:

إرسال تعليق