استحقاقات المساومة التاريخية وتحديات المشروع الوطني السوداني( 1- 2)


عثمان نواي
في أطار السعي للخروج من مأزق السودان التاريخي ومحرقة البشر ومتوالية الحروب والتفتت والانقسام الوطني، تبدو أطروحة الحاجة إلى تشكيل كتلة تاريخية تخرج البلاد من أزمتها وكأنها ضوء في آخر النفق، يراه البعض الحل المنطقي الوحيد. وفكرة الكتلة التاريخية التي بناها جرامشي مطلع القرن الماضي تتطلب درجة من الوعي ألذي يصل ذروته في فئات المجتمع المختلفة حتى تدرك حاجتها إلى العمل معا من أجل الالتقاء حول أرضية مشتركة يتم على أساسها بناء مؤسسات الدولة على قواعد وعقد اجتماعي جديد يحدث قطيعة تاريخية مع أزمات الماضي. وعند النظر إلى الكتلة التاريخية بهذا الشكل تبدو فعلا المخرج الممكن لأزمة السودان.
لكن على مستوى السودان يبدو أن هناك لا زالت حاجة إلى عمل دؤوب للوصول الي نقطة قيام كتلة تاريخية حقيقة فاعلة وذات إرادة قادرة على صناعة تغيير جذري في الدولة السودانية. ولكي ننظر إلى إمكانيات قيام الكتلة التاريخية يجب أن ننظر إلي معوقات أو موانع قيام تلك الكتلة رغم كل المحاولات التي جرت على مستوى سياسي أو ثقافي لإيجاد قدر من التوافق حول اجندة سقف أعلى بين القوى السياسية والنخب المستنيرة في السودان، خاصة خلال الفترة الماضية. وبشكل مبدئي يبدو أن اهم معوقات قيام الكتلة التاريخية تكمن في أن النخب تبحث عن سقوف عليا تتعالى أو تتغاضي عن بناء ارضيات مشتركة تستند إليها تلك السقوف العليا المتفق عليها. ولذلك دائما ما تصبح تلك الاتفاقات ذات السقوف المعلقة في الهواء بلا أرضية تستند إليها ولا قواعد تحملها، مما يجعلها مجرد كلمات معلقة تذهب بها أضعف رياح للتغيرات في المواقف أو التحالفات الشكلية المستندة إلى تلك السقوف المعلقة بلا أعمدة تسندها. وهنا نجد أن اتفاقات وتحالفات التجمع الديمقراطي في التسعينات وصولا إلى نداء السودان نجد تلك المحاولات لإنشاء كتل تاريخية ذهبت في مهب الريح بكل سهولة.
إذن ما هي ارضيات التوافق التي يجب أن تستند إليها اي مجهودات لقيام كتلة تاريخية فاعلة؟ أن أهم أرضية هي أرضية التحليل السليم للأزمة السياسية السودانية. وهذا التحليل يبدأ من حقيقة أن الدولة السودانية هي دولة عنصرية مبنية على الهيمنة الاثنية والثقافية الأحادية التي تعتقد بالتفوق العربي الإسلامي على بقية الاثنيات والثقافات السودانية. يقول خالد الكد في خلاصة بحثه حول المشروع الوطني السوداني وعلاقته بتاثير الافندية أو النخبة السياسية التي شكلت الدولة السودانية الحديثة ما بعد الاستعمار : ( أنه حتى الآن فإن النخب المؤيدة للتعريب من الشماليين ترى أن المجموعات الاثنية والثقافية الأخرى مجرد مجموعات متخلفة ويجب جرها إلى نور الحضارة العربية والإسلامية. وهم يدعون أن هيمنة الثقافة العربية والإسلامية في السودان ليست فقط نتيجة لعملية هيمنة تاريخية واقتصادية بل نتيجة لتفوقهم على هذه المجموعات البدائية التي ليس لها أي ثقافة أو حضارة.). ص 204. وبناءا على هذه الرؤية الفوقية. والعنصرية بامتياز يحلل خالد الكد أزمة الحروب الأهلية خاصة في الجنوب وأزمة التمييز العنصري في الدولة السودانية قائلا :
" أن السودانيين الشماليين كانوا يتعاملون مع الجنوب مثلما يتعامل المصريين مع السودان، باعتباره أرض مملوكة لهم. حيث انهم ينظرون إلى الأرض اولا، اي ملكية الأقاليم من بحر الغزال وحتى الأستوائية، واعالي النيل. أما البشر فإنهم يأتون كملحق مع الأرض تكمن أهميتهم بقدر مساعدتهم في الاستفادة من الأرض والحفاظ عليها.) ويضيف الكد بين مزدوجين (وكانت هناك أوقات حيث تمت مناقشة الابادة الجماعية) وفي حاشية هذين المزدوجين كتب الكد (انه في عهد عبود تم استقدام بعض الدبابات التي تقذف اللهب وقيل انه صدرت أوامر بإحراق القرى الموجودة في الغابات في الجنوب حتى يتم انهاء الحرب بشكل تام. حيث أن أرض الجنوب الخصبة يمكن إعادة زراعتها عبر مزارعين من الشمال.) انتهي ما كتبه خالد الكد في كتابه الافندية في السودان في صفحة 159. وأضاف الكد قائلا ( أن الافندية في الشمال لم يفكروا أو ينظروا ابدا إلى الجنوبيين كمجموعة أثنية لها ديانتها أو لغاتها أو اثنياتها المختلفة. بل نظروا إلى الجنوب دوما على اعتبار أنه يجب ان يكون تابع للشمال follow the north."
خالد الكد الذي كان عضوا في الحزب الشيوعي السوداني والذي كتب كتابه في مطلع التسعينات توفي قبل أن تحدث فعليا إبادة جماعية في دارفور ، هذا إضافة إلى حقيقة أن الجنوب قد جرت فيه إبادة جماعية حسب كثير من منظمات حقوق الإنسان بشكل أو آخر في خلال الخمسين عاما من الحرب. لذلك فإن الدرس الأساسي الذي نحتاج له لبناء كتلة تاريخية هو وضع مسألة الهيمنة العرقية في قلب النقاش حول أي مشروع وطني جديد. وقد قال الكد بوضوح انه يعتقد أن أي عملية تغييب للنقاش حول سؤال الهوية في أي مشروع مؤتمر دستوري لحل الازمة السودانية سوف يعني هزيمة هذا المجهود في مهده. ووجهة النظر هذه ناتجة عن أن النخب السياسية الحاكمة في السودان في المعارضة والحكومة على مدى التاريخ منذ الأستقلال قد فشلت في مخاطبة جوهر الأزمة السودانية وهو التمييز العنصري والاستغلال الاقتصادي والتعالي الثقافي.
والسبب في عدم مواجهة حقيقة أزمة السودان الجوهرية بهذا الشكل، هو أن النخب السياسية في المركز ظلت تنظر إلى بقية أجزاء السودان غيرالعربية على أنها أرض بلا بشركما حلل ذلك الكد سابقا. ولذلك كانت إمكانيات إبادة هذه الشعوب أو محاولة الهيمنة عليها ثقافيا واستغلالها اقتصاديا هو الاستراتيجية الرئيسية للنخب في الشمال المهيمنة على الدولة. وحين تتصاعد مقاومة البشر مما يصعب استغلال تلك الأرض لا يصبح فصل تلك الأرض بما تحوي من بشر أمرا صعبا، حيث انه لا يوجد في الأصل ذلك الشعور الوطني القوى الذي يجعل فصل جزء من أرض الوطن شيئا مؤلما على المستوي الوجداني أو مؤثرا على الرؤية الوطنية، وهذا لانعدام وجود تلك الرؤية من الأساس لدى تلك النخب السياسية المهيمنة على السودان. لقد حلل الشهيد جوزيف قرنق رؤية النخب الشمالية للجنوب وبقية المناطق المهمشة قائلا :
( أن البرجوازييين الشماليين ، مثل بقية البرجوازييين في الدول المستعمرة أو شبه المستعمرة، يحملون أحلاما بأن يصبحوا يوما رأسماليين أغنياء مثل المستعمرين من الدول الامبريالية. فهم يأملون في أن يصبحوا مصنعين عظام أو تجار أغنياء بشكل فاحش أو مزارعين كبار أو مصرفيين، الخ. ولكي يصلوا إلى تحقيق هذه الأحلام فهم يحتاجون إلى أسواق و إلى ايدي عاملة رخيصة والي أرض ومواد خام وما إلى ذلك. فهم ينظرون إلى المناطق المتأخرة مثل الجنوب كمناطق مثالية للحصول على هذه الموارد. ومن هنا تنبع ميولهم نحو إعاقة التنمية في هذه المناطق، إضافة إلى أستمرار محاولتهم وضع الناس في هذه المناطق تحت تأثيرهم الثقافي والايدولوجي.) انتهى حديث جوزيف قرنق المقتبس من قبل خالد الكد ص 159.
ان هذه الرؤية للمناطق المهمشة لا تزال تسيطر على عقلية النخب المركزية التي ترى فى الهامش أرض مليئة بالموارد لكن البشر هناك هم مجرد مورد آخر يمكن استغلاله لكن أيضا يمكن التخلص منه إذا أمكن في سبيل الوصول إلى تلك الموارد. ان هذه الرغبات في الإغتناء لدى النخب السياسية السياسية الشمالية على حساب الهامش وتأخير تنميته، وصلت إلى مرحلة الإغتناء حتى من ألام الهامش وحروبه. و التي تستفيد بعض النخب السياسية السودانية من استمرارها لدعم أجندتها في صراعها الشمالي الشمالي من أجل السلطة عبر محاولة التعبير عن انتهاكات الحروب في الهامش واستخدامها في المجتمع الدولي للضغط على النظام الحاكم من أجل تحقيق مكاسب سياسية حزبية او شخصية، وليس فقط نتيجة التعاطف الصادق أو المدافعة الحقيقة عن الضحايا. حيث هناك بقدر ما هيكلة استغلال ممنهج لهذه الصراعات نفسها كوسيلة لدى البعض من أجل التمكين السياسي والاقتصادي، ولذلك هناك تناقض في جهود هذه النخب لعمل بشكل جاد لإنهاء هذه الحروب والصراعات في الهامش أدت إلى أن أصبحت مصدرا أيضا للإغتناء عبر إبقاء هذه المناطق في حالة نزاع دائم، يتم استغلال القضايا من قبل بعض نخب المعارضة للسياسة في المركز، في حين أن الحزب الحاكم يستغل استمرار الحروب في الحفاظ على بقاءه في السلطة بحجة حماية الوطن وأيضا من أجل الإغتناء عبر تجار الحرب واستغلال الأيدي العاملة الرخيصة التي شردتها النزاعات.
لذلك يبدو أن استغلال وعنصرية وهيمنة النخب الشمالية للهامش، تتعدى محاولة بناء مشروع وطني إلى الحفاظ على مشاريع (الإغتناء الشخصي) القائمة حاليا والتي لا تمت بصلة إلى أي رؤية وطنية بل هي مجرد مشاريع للخلاص الشخصي والاغتناء الفردي المستندة إلى عقلية تجار الرقيق والجلابة الذين لا يفكرون عادة سوى في وسيلة استغلال الآخرين لتحقيق الربح. لذلك يبدو أن قيام مشروع وطني وكتلة تاريخية يستوجب استحقاقا رئيسيا من قبل نخب الشمال وهي التخلي عن مشاريع الإغتناء الفردي والخلاص الشخصي حتى يتم الوصول إلى كتلة تاريخية تؤدي إلى الخلاص الوطني وليس الذاتي النخبوي فقط. قال منصور خالد في لقاءه الصحفي الاخير مع صحيفة التيار: ( أن هذه النخب كاذبون.. ) .
ونواصل..
nawayosman@gmail.com

Share on Google Plus

عن المدون gazalysidewalk.com

هنا نبذة عن المدون ""
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 comments:

إرسال تعليق