استحقاقات المساومة التاريخية وتحديات المشروع الوطنى السودانى 2-2


بقلم عثمان نواى
الخلل الهيكلى فى مفهوم الوطنية السودانية
لبناء ما يسمى ( بالمشروع الوطنى ) فى السودان نحتاج الى سبر اغوار مفهوم الوطنية فى الدول المابعد استعمارية , وعبر نظرة وتحليلات علماء السياسة والاجتماع الحديث , فان الوطنية المستندة على فكرة الامة والتى يفترض ان تبنى الدولة الوطنية تواجه تحدى حقيقي فى وجود تعدد اثنى. خاصة فى حالة التحرك نحو بناء دول ديمقراطية بحيث تعنى الديموقراطية حكم الشعب. يقول عالم السياسة والاجتماع الامريكى مايكل مان فى كتابه الفريد ( الجانب المظلم من الديمقراطية: شرح التطهير الاثنى) :
(فى العصور الحديثة اصبحت لكلمة " الشعب" معنيين. الاول هو ما استخدمه الاغريق فى معنى كلمة ( Demos) والتى تعنى الناس العاديين , او عامة الشعب (the mass population) حيث ان الديمقراطية هى حكم عامة الشعب. ولكن فى حضارتنا فان الشعب يعنى ايضا " الامة" ( nation) او كلمة اغريقية اخرى ( ethnos) حيث ان المجموعة الاثنية هى مجموعة يتشارك اعضائها الثقافة والموروث المختلف عن بقية الشعوب . لكن اذا ما حكمت الشعوب فى – الدولة \الامة- الخاصة بها , واذا كان تعريف الشعب على اسس اثنية , حينها تكون الوحدة الاثنية ذات ثقل اكثر اهمية من نوع المواطنة التعددية والمتنوعة التى لها اهمية مركزية بالنسبة للديمقراطية. واذا حكم " الشعب" بهذا المفهوم – الاثنى- ما الذى سيحدث لاصحاب الاثنيات المختلفة -عن هذا الشعب او الاثنية الحاكمة؟ الاجابة غالبا كانت غير سارة , خاصة عندما تشكل اثنية واحدة اغلبية, حيث انه بامكانها ان تحكم " ديمقراطيا" ولكن بشكل " استبدادى".)
والسودان المتعدد اثنيا يشكل مثالا عملياعلى هذه الازمة التي تتعلق بالاجابة على سؤال 
:( من هو الشعب او الاثنية التى ستحكم؟) لذلك اسرع الاباء المؤسسون لدولة مابعد الاستعمار التى افترض فيها اولا ان تكون ديمقراطية خاضعة لحكم ( الشعب), سارعوا الى محاولة تعريف من هو هذا الشعب الذى سيتحرر من الاستعمار والذي سيحكم بعد ذلك الدولة الوليدة. فى كتيبه حول الفكر السياسى فى السودان ( الى اين يجب ان نتجه؟) والذى نشر عام 1941, يقول محمد احمد المحجوب: ( من حظ السودان شيوع اللغة العربية بين ربوعه اولا لذيوع الاسلام بين اهله وثانيا لان الدم العربى هو الغالب على اهله.) ان هذه الفرضية بان السودان يشيع فيه الدم العربي والتى للاسف لا تسندها اى حقائق واقعية, كانت هى الية التعريف للشعب الذى سيحكم الدولة السودانية فى شكلها الديمقراطى, ولذك انتهى هذا التعريف ( للشعب) المنحصر فى اثنية واحدة الى ما وصفه مايكل مان اعلاه بانه يؤدى الى تكوين وحدة اثنية ذات ثقل ااكثر اهمية من نوع المواطنة التعددية والمتنوعة, والنتيجة ان حكم الشعب بهذا المفهوم الاثنى الاحادى يؤدى فى النهاية الى حكم استبدادى , ( ونهايات غير سارة) بالتاكيد. واسوا سيناريوهات تلك النهايات السيئة هو التطهير الاثنى لبقية الاثنيات التى تتشارك مع تلك الاثنية الحاكمة الدولة او الارض . للاسف ان كل هذا السيناريو ينطبق تماما على نشاة الدولة الوطنية السودانية والتى اثبتت تماما صحة تحليل ونظرية مايكل مان, حيث اوصلنا تعريف المحجوب للشعب السودانى بانه شعب عربي الى الوصول الى الدولة الاستبدادية والتطهير الاثنى والنزاعات والتقسيم.
لذلك فان بناء اى مشروع وطنى فى السودان لا يقرا التاريخ الحديث لبناء الوطنية السودانية فى اطار الهيمنة الاثنية العربية ونتائجها الكارثية ووجوب تفكيك هذه الهيمنة, هو مشروع سطحى وشكلى لن يكون سوى اعادة انتاج للازمة فى قوالب جديدة. وعليه فان اهم استحقاقات المساومة التاريخية هو الاتفاق على تعريف الازمة حتى يتم الوصول الى حلول جذرية . حيث ان الالتفاف على حقيقة الهيمنةالاثنية العربية على الدولة السودانية سيؤدى الى تعميق الخلل الهيكلى للدولة السودانية وسيؤخر اتخاذ الاجراءات العملية التى تتطلبها المساومة التاريخية. وعلى راس هذه الاجرءات هو ابداء الاستعداد والالتزام الواضح بضرورة تقديم تنازلات حقيقية عن هيمنة السلطة الاثنية الاحادية على الدولة السوادنية. وهذه التنازلات لن تاتى الا ضمن اعتراف جوهرى بان هذه الهيمنة هى عماد الازمة الرئيسي وان نتائجها الكارثية على كل السودانيين بما فيهم الاثنيات العربية نفسها يجب ان تشكل الدافع نحو تغيرات هيكلية تؤدى الى تقديم تلك التنازلات عن الهيمنة والامتيازات حتى يكون هناك تشارك كامل فى السلطة والثروة وحتى يتم بناء مشروع وطنى يكون فيه حكم الشعب غير مستند على اثنية واحدة.
ان ازمة انكار الهيمنة الاثنية العربية بشكل كامل وان هذه الهيمنة واحادية السيطرة على تعريف من هو الشعب ومن هو الحاكم الحقيقي للسودان , ظلت احدى اهم اسباب تاخير تشكل الكتلة التااريخية. وذلك بسبب التباين الواسع بين نخب وقوى المركز الاثنى العروبى ف السودان فى التعامل مع هذه الحقيقة . واصبح الحديث عن الهيمنة الاثنية على المستوى السياسيى, و التى لها امتدادها الاجتماعى المرتبط بالعنصرية وتاريخ الرق , اصبح الحديث عن هذه القضايا ضمن اهم تابوهات النقاش السياسي والفكرى فى السودان. حيث يوصف المتحدثون فى هذه المواضيع بالعنصريين او الداعين لاصطفاف عرقي او الداعين الى الفتنة بلغة الاسلاميين. لكن الحقيقة ان الفتنة التى هى اشد من القتل هى الواقع الذى نعيشه منذ عقود والذى ادى الى قتل لا حصر له. يقول رومل : ( ان السلطة تقتل, ولكن السلطة المطلقة هى قاتلة بالتاكيد!) وبالتالى فان السلطة المطلقة لهذه الاثنيات ادت الى قتل كثير فى هذه البلاد, لذلك وجب الحديث عنها ورفع الصوت والمجاهرة حتى نستطيع ان نصنع قطيعة تاريخية بيننا وبين هذا القتل لنا جميعا كسودانيين من كل الاثنيات , اولها الاثنيات العربية نفسها. ان انكار ان الهيمنة الاثنية العروبية تتحمل المسؤولية عن الازمة السودانية هو مجرد هروب من الواقع. حيث ان عملية التعريب والاستعراب التى فرضتها الدولة السودانية ظلت هى المهيمنة لدرجة انها اصبحت امرا طبيعيا وعاديا , خاصة بالنسبة للمنتمين للاثنيات المهيمنة , وخاصة النخب, حيث ان انعدام قوانين فصل عنصرى, تمنع الاثنيات الاخرى بشكل واضح من ممارسة حقوق المشاركة السياسية او حصولها على التعليم والعمل والترقي الاجتماعى , تجعل هذه النخب تصر على انه ليس هناك هيمنة عروبية واحادية على الدولة. وهذا الوضع شبيه للغاية بالحالة الامريكية من حيث سيطرة البيض الخفية على الدولة هناك رغم عدم وجود قوانين فصل عنصرى واضح منذ الستينيات. يقول جورج ليبزبتز البروفيسور فى الدراسات الاثنية فى كتابه” الاستثمار التملكى فى البياض” 
:( ان البياض موجود فى كل مكان فى الثقافة الامريكية, ولكن يصعب جدا رؤيته. ويقول ريتشارد داير ان “ القوة البيضاء تقوم بتامين سيطرتها بان تبدو وكانها لا شىء محدد بالضبط” اى وكانها فئة غير محددة , فى مقابلها يتم هيكلة بقية الاختلافات . فالبياض او القوة البيضاء لا تحتاج ابدا للحديث مستخدمة اسمها, وليس عليها ابدا الاعتراف بدورها كاساس لتنظيم العلاقات الاجتماعية والثقافية.) ونجد ان هذا التحليل ينطبق بشكل كبير على العروبة والهيمنة الاثنية العروبية على السودان, وعدم الاعتراف بهيمنة هذه العروبة هو فى الحقيقة الدليل الاكبر على هيمنتها المطلقة, الى درجة انها تتعالى حتى على تعريف نفسها او الاعتراف بهيمنتها, حيث ان عدم الاعتراف هذا هو ايضا احدى اهم اليات استمرار الهيمنة والسيطرة الخفية , وكانها لاشىء ابدا.
الوعى الواجب باللحظة الراهنة
يقول ليبزتز  :( ولكى نعرف , نحلل , ونقاوم العواقب المدمرة للبياض او القوة المهيمنة البيضاء , نحتاج الى ما اسماه والتر بنجامين “ حضور العقل “ ) ويعرف بنجامين حضور العقل قائلا انه  :(فكرة تجريدية وملخصة عن المستقبل , اضافة الى وعى دقيق باللحظة الراهنة, ) ويضيف ليبزتز لتعريف بنجامين ملاحظة هامة حول الواقع الامريكى قائلا:( فى مجتمعنا فى الوقت الحاضر , فان الوعى الدقيق باللحظة الراهنة, يتطلب ان نتفهم الوجود والعواقب المدمرة للهوية البيضاء.) , هذا مع اهمية توضيح ان البروفيسور ليبزتز نفسه هو من البيض. وليس هناك ابلغ من هذه العبارة الاخيرة لهذا العالم والناشط الامريكي فى الحقوق المدنية والمساواة للتعبير عن الحاجة لهذا الوعي “ الدقيق باللحظة الراهنة” الذى يتطلبه واقعنا السودانى , اى الادراك العميق والاعتراف بان الهوية العروبية للدولة السوادنية بشكل احادى انما تؤدى الى عواقب “مدمرة” لنا جميعا كسودانيين من مختلف الاثنيات بما فى ذلك الاثنية العربية نفسها. ومن هذا المنطلق تبدأ عملية التاسيس للمساومة التاريخية الضرورية للغاية اذا ما كان لدى النخب من الاثنية المهيمنة بكل تباينها السياسي والفكرى وعى دقيق باللحظة الراهنة واذا كانت قادرة على ممارسة الحضور العقلى الذى يتطلب ايضا تصورا للمستقبل بشكل مجرد. وهذا الحضور العقلى المطلوب من النخب فى المركز هو الذى يدفع نحو الادراك بكارثية سيطرة الهوية العربية الاحادية على الدولة السودانية وضرورة تقديم تنازلات رئيسية تودى الى تفكيك هذه الهيمنة.
ومن اهم منطلقات اعادة النظر فى اسس التحاور بين الاطراف فى المركز المهيمن والاطراف والاثنيات المستبعدة هو ان تدرك النخب المسيطرة فى المركز ان النقاش عن الهيمنة العربية او الهوية العروبية للدولة ليس ابدا من منطلق ما يسمى ب( العنصرية المضادة). بل هو من منطلق عكس حقيقة الواقع بشكل ربما يصعب على تلك النخب رؤيته لانها ليست من المتضررين منه بنفس قدر الضرر والدمار الذى اصاب المهمشين اوالمنتمين للاثنيات الغير عربية. فوجب الحديث بشكل مستمر عن قضايا العنصرية والتمييز ليس فقط من اجل المطالبة بحقوق اهل الهامش بل ايضا لكي تستطيع هذه النخب الحاكمة فى المركز استيعاب حجم الدمار الذى سببته طريقتها فى الحكم والسيطرة, وبالتالى مساعدتها على ان لا تكرر هذه الاخطاء مرة اخرى فى المستقبل , وحتى لا تضطر الاجيال المقبلة الى تحمل اعباء اخطاء الاباء وعبء محاولة فهم اسباب ما سترثه من تاريخ ثقيل من الجرائم والمظالم. ليس الهدف من التحليل للازمة سوى الوصول للحلول وليس فقط دمغ المجرم والتشهير به , ولكن مطالبته بالاعتراف بالجرم وايضا مساعدته على ادراك حجم ازمته الذاتية التى تسببت فى ازمات للاخرين ودمار للبلاد. لذلك على نخب المركز ان تكون من رحابة الافق والصدر بمكان لتحمل سرد التاريخ وتوصيفاته المؤلمة, ولكنها حقيقية حتى يتم الانتقال الى نقطة المحاسبة والمصالحة , التى لن تاتى دون حدوث المصارحة التاريخية . حيث انه كما ذكرنا فى التحليل اعلاه ان الانكار وعدم الاعتراف بالهيمنة العروبية هو الية لاستمرارها , ولن يؤدى الا الى مزيد من التعقيد.
تجاوز الماضى والتحرك الى الى الامام
من جانب اخر فان التاريخ يتحرك دوما الى الامام , ولكن هذه الحركة فى سرعتها ومدى فاعليتها فى تجاوز الماضى ترتبط بمدى القدرة على المواجهة مع الحمل التاريخي السلبى والقدرة على اسقاط الاعباء التى تسببت فى ازمات فى السابق. وبالتالى فان الحركة الى الامام محكومة تماما بالعودة الى الخلف لكن باليات الحاضر , عبر ادارة الحوار الصريح المفتوح الذى يتقبل الحقائق التاريخية كل حسب تجربته الخاصة , وان يتحمل الطرف المتسبب فى الضرر ما سيخرج من الاخر نتيجة لتجربته دون مطالبة للضحية بان يلتزم بقواعد للسرد او الحوار تتناسب مع رغبات الجناة وليس مع احتياجات الضحايا. وهذا يعد شرطا مبدئيا فى اطار النقاش والحوار حتى فى الاسافير. حيث ان تجربة المعاناة للمهمشين عبر قرون من التعرض لجرائم الاستراقاق, والحروب والابادة والعنف بكل اشكاله حتى داخل العاصمة , اضافة للتمييز المستمر , هذه التجارب يجب احترامها وعدم مساواتها بمعاناة سودانيين اخرين على اهميتها وصعوبتها , لكنها بلا شك مختلفة تماما ولا يمكن مقارنتها او مساواتها, حيث ان ازمات الفقر والقهر السياسي , رغم سوئها لكن ليس من العدل ان تقارن بالابادة والتمييز الاثنى والقتل الجماعى والحرمان الممنهج من قبل الدولة من المواطنة الكاملة. حيث ان الفقر او الافقار المتعمد وقهر السلطات او النظم الحاكمة ربما يزول ببعض الاصلاحات السياسية فى النظام نفسه او عبر تغييره بنظام جديد , لكن التمييز الاثنى عبر الدولة منذ انشائها هذا امر يحتاج الى تغيير من نوع خاص اكثر عمقا وجذرية ومرتبط ليس فقط بنظام حكم بل ببنية دولة كاملة اجتماعيا واقتصاديا ثم سياسيا. ومن هنا يتحتم النظر بشكل واعى ومتفهم لخصوصية المعاناة وبالتالى ما يتطلبه ذلك من خصوصية التعاطى معها واستنباط معالجات تليق بحجمها.
وفى طريق التحرك الى الامام والوعى الدقيق باللحظة الراهنة , يتطلب ايضا ان نفهم جميعا فى المركز والهامش ان اليات الصراع وادارة الحوار القديمة لم تعد كافية. اذ لابد من استيعاب جميع الاطراف للتغيرات الجوهرية فى بنية المجتمعات على الجانبين . هذا الادراك من شانه ان يقرب من نقاط التواصل والتفهم والقدرة على صناعة تصور اوضح للمستقبل. حيث ان احد اهم عقبات الحراك نحو المساومة التاريخية وصناعة الكتلة التاريخية للتغيير الجذرى, هو الغياب الكامل لما اسماه والتر بنجامين اعلاه ب ( الفكرة التجريدية عن المستقبل) . اى عدم وجود تصور لشكل سودان اخر غير الموجود حاليا. فى الوقت الذى نجد فيه ان النزاعات نفسها ادت الى عمليات ازاحة اجتماعية واحتكاك ثقافى كبير بالنسبة لمجموعات الاثنيات المضطهدة , كما ان الفشل المستمر لدولة الهيمنة الاثنية الاحادية العربية ادى الى تشكيك كبير فى جدوى هذا النهج داخل المركز نفسه. وبالنتيجة فان وعيا تنامى لدى الجانبين بضرورة صناعة قطيعة تاريخية وايجاد حلول حقيقية. لكن غياب تصور واضح لعملية الانتقال الى شكل اخر من السودان تجعل الجميع فى حالة ترقب وجمود وشك متواصل. لذلك فان الاستيعاب ضرورى لحقائق رئيسية , وهى ان الهامش لم يعد جاهلا ولا ضعيفا ولا قابلا للاستغلال , وان تاريخ المقاومة الطويل والمستمر منذ الاستقلال لمشروع التعريب والهيمنةالاثنية العروبية على الدولة السودانية هو تاكيد على تنامى الوعى, حيث ان السلاح اعتبر وسيلة التعبير الوحيدة لوقت طويل عن تلك المقاومة. لكن انفتاح العالم والهجرة الاجبارية والتشريد الاجبارى والطرد من اراضى الوطن سواء داخل السودان او خارجه جعل المهمشين يحملون الان ادوات للمقاومة تختلف وتتدرج من اقصى درجات العنف الى اقصى درجات السلمية. وهذا التنوع فى الادوات فى المقاومة ليس انقساما فى المقاومة بل هو توسيع لمساحاتها, حتى تتكافأ مع التطور الموازى ايضا فى اشكال الهيمنة والتمييز والعنف الذى تمارسه الدولة الاحادية الاثنية المهيمنة , خاصة فى العقود الثلاثة الاخيرة. حيث ان اتساع رقعة المقاومة حتى دارفور اسقط قناع الحرب الدينية اواضح ان الصراع اثنى بامتياز وادى فعليا الى تطهير اثنى وثقت له المحكمة الجنائية الدولية. وهذا الواقع الكارثى فرض على الضحايا استيجاد اليات مقاومة عديدة من بينها هذه المطالبات الدولية بالمحاسبة والتدخلات الاقليمية والعالمية التى اصبح لها دور متزايد فى تعقيد خريطة الحلول المطروحة للازمة السودانية, وربما يهدد خروجها من ايدى السودانيين الى ايدى المجتمع الدولى ولو بشكل جزئى.وهذا سيناريو لا يتطلب تطبيقه الغزو العسكرى , لكنه قد يتمظهر فى شكل الاجندة الدولية والاقليمية التى يمكن تمريرها عبر السودانيين المتنازعين فى كل الاطراف , حيث تتداخل مصالح الدول العربية و الغربية و روسيا والصين وامريكا فى داخل قوالب العولمة ذات الابعاد الاقتصادية المتعلقة بصراعات الموارد , والتى سوف يكون كل السودانيين الخاسر الاكبر منها بكل اطرافهم , اذا ما سمحوا لانفسهم ان يكونوا عرائس ماريونيت في ايدى لاعبى المصالح الدولية والاقليمية. وما مشاهد الدمار فى سوريا والعراق وليبيا الا نتيجة لانفراط عقد السيطرة على الامور من بين ايدى مواطنى تلك الدول الى مراتع المصالح الدولية المتصارعة. لذلك فان الوعى العميق باللحظة الراهنة يتطلب ان يدرك النخب السودانية ان اليات الصراع المتغيرة لازالت فى ايديهم, وان السينارويهات الاسوا ليست بعيدة ولكنها على الاقل لم تصبح واقعا بعد, ولذلك فان المستقبل يمكن ان يكون له تصورات ايجابية للغاية اذا ما تم ادراك واعى للحظة الراهنة.
مخاطر التواؤم مع الازمات والخوف من التغيير
ان السودانيين بكل اطرافهم بما فى ذلك اشد المتطرفين ما زالو قادرين على النقاش والحوار معا, ومنصات التواصل الاجتماعى دلالة على ذلك. وربما هناك فرضية تقول بان الشعب السودانى مسالم , وربما هذا الى قدر ما صحيح فالشعوب والاثنيات السودانية المختلفة لا زالت الى الان قادرة على النقاش, لكن هذا الوضع لن يستمر طويلا. فالعبرة التى يجب فهمها من تجربة الربيع العربي , هى ان الحلول الخاطئة للازمات هى اسوا بكثير من بقاء الازمات دون حلول. ولذلك فان الخوف المشروع من التحرك نحو التغيير قد يبدو منطقيا فى اطار الخوف من الحلول التى تؤدى الى الكارثة. لكن ما تعلمنا له تجربة جنوب السودان , ان التعايش لفترات طويلة مع الازمات والظروف السيئة , تجعل الازمات نفسها وكانها هى الوضع الطبيعى, فيعجز الخيال عن تصور حياة غير مازومة ودون صراع. حيث ان الانسان ابن بيئته واستطالة التواؤم مع الاوضاع الغير طبيعية يحول تلك الاوضاع الى اوضاع طبيعية على المستوى الذهنى للذين يعيشونها, ويصنع ميل مستمر للعودة الى ما اعتاد عليه الناس من حالة مازومة. الان السودان يعيش حالة حروب وفقر وتشرد وعنصرية على الجانبين فى المركز والهامش المستفيد من الوضع والمتضرر منه اعتاد عبر 60 عاما على الحياة تحت هذه الظروف وشروط العلاقات الاجتماعية والسياسية المضطربة. ولذلك نجد ان هذا الاعتياد يعضده استمرار وجود نفس الوجوه التاريخية كقيادات سياسية منذ اكثر من نصف قرن خاصة فى المركز المهيمن. لذلك فان الخوف من الفكاك والخلاص من حالة التواؤم مع الازمات هو مؤشر خطير يعطل اى اختراقات جريئة نحو حلول مغايرة ومختلفة عن التجارب الماضية, كما انه يهدد هذه العقول المرهونة لحالة المساكنة مع الازمة فى كل الاطراف. ولكن حالة السكون هذه سوف تصل الى نقطة قصوى من الشحن وتؤدى الى انفجارات لن يحمد عقباها اما بسبب تفاقم الاوضاع او لاسباب اخرى ربما تكون خارج السيطرة. ولذلك فان هذا المنحنى من ( الوعى الدقيق باللحظة الراهنة) يشكل بعدا هاما للغاية فى تفهم دور القيادات الشابة والجريئة وصاحبة الاصوات المغايرة مهما كان سنها , خاصة فى المركز , واهمية هذه الاصوات متزايدة فى الهامش ايضا. حيث ان احداث اي تجاوز للواقع الساكن ظاهريا الان يتطلب ان يتم تشجيع الاصوات التى يتم اسكاتها عمدا , ويتم دفعها الى الخلف خاصة من المركز المهيمن . تلك الاصوات التى لا يتم السماح لها بالوصول الى قيادة عمليات اتخاذ القرار داخل الدولة المركزية . حيث ان هناك كثير من النخب فى المركز نفسه ممن لديهم وعى دقيق باللحظة الراهنة لكن يتم تجاهل اصواتهم , وقد اتاحت هذه الاسافير المفتوحة اللقاء ببعضهم , كما انها اتاحت لهم التعبير ولو بشكل اضعف عن رؤاهم التى يمكن ان تكون خط تلاقى رئيسى يعترف بالازمة ولديه الشجاعة للتحرك نحو مساومة تاريخية وتشكيل كتلة تاريخية قائدة لعملية تحول جذرى فى المجتمع والدولة معا.
الحركة الاجتماعية والقيم العليا للمشروع الوطنى
حتى يتم تجاوز الكثير من تعقيدات انعدام الارادة السياسية وانتكاسات مغريات السلطة و لعبة الكراسى والتكتيكات المرحلية التى كانت احد المصدات الرئيسية لصناعة خطوات جادة نحو المساومة التاريخية وصناعة الكتلة التاريخية, فان هناك حاجة الى ان تكون العملية المؤدية للتغيير هى عبارة عن ( حركة اجتماعية واسعة) . حيث ان الاطار السياسى يفرض سقوفا واليات عمل محدودة تتقاصر عن مواكبة احيتاجات المرحلة الراهنة ذات الابعاد الاجتماعية, الثقافية , الاقتصادية والسياسية بالطبع. حيث ان شروط التغيير الجذرى فى السودان تتطلب عملا على المستوى الاجتماعى يكسر كثيرا من المتعود عليه عبر عقود بل قرون . وتحدى هذا المعتاد وكسر هذه التابوهات تحتاج الى نوع من العمل الذى يصنع علاقات شبكية لا مركزية القيادة لا تحتاج الى قيادات افراد , بقدر حاجتها الى قيادة قيمية عليا. حيث ان الحركة الاجتماعية يمكن ان يكون لديها تصور مجرد للمستقبل اكثر عملية وتفاؤلا , وهذا التصور بامكانه ان يصنع المشروع الوطنى المرجو عبر الوصول الى قيم عليا متفق عليها تتجاوز الاديان والاعراق والثقافات , وهى قيم انسانية يكون الانتماء لها هو اساس للانتماء الوطنى نفسه, وعلى اساسها يكون الانسان هو محور بناء الدولة والذى هو المواطن المفترض فى الدولة وايضا الحاكم المحتمل كجزء من شعب متساوى فى الحقوق والواجبات على اسس الانسانية المتساوية . فى دول صنعت القفزة على تحديات التعددية والتنوع الاثنى والثقافى , ومن ضمنها حتى امريكا نفسها, اصبحت ارضيات الهوية الوطنية مبنية على الارض والقيم العليا .فى امريكا مثلا , كانت مطالب مارتن لوثر بالحقوق المدنية مبنية فى خطبه على المطالبة بتطبيق القيم الامريكية فى الحق عن البحث عن السعادة والمساواة لكل الناس , حيث قال مارتن لوثر ان الدستور الامريكى قدم للسود شيكا لكن من غير رصيد يغطى هذا الصك . وبالتالى فانه احرج البيض بذات القيم التى وضعوها بانفسهم. فى فرنسا التى صنعت مفاهيم الديمقراطية وحقوق الانسان الحديثة , فان الحرية والمساواة هى قيم عليا اساسية لا يمكن اختراقها. ولذلك فان الرؤية لاى حراك نحو التغيير من كل الاطراف يجب ان تبنى وتروج لقيم عليا يتمتع بها كل سودانى بغض النظر عن خلفياته وهويته الفردية. ففى عصر شبكات التواصل الاجتماعى كل شخص وكل فرد او حتي جماعة لديهم القدرة على التعبير المفتوح عن ثقافتهم كافراد وجماعات , ولذلك فان اى احتكار او محاولة اضطهاد لثقافات الاخرين وهويتهم لم تعد مجدية, فكل فرد قادر على التعبير عن هويته من خلال صفحته الشخصية على الفيسبوك, ولا يحتاج حتى الا تلفزيون قومى او بطاقة هوية من احد لتعطيه هذا الحق او تلك الحرية. لذلك فان سؤال الهوية نفسه الان اصبح سوال يجيب عليه السودانيين عبر ممارسة حياتهم اليومية عبر الملبس والموسيقى والكلام وصفحات الفيس, كما ان الكثيرين يحسمون جدلهم الشخصى عبر فحوص الجينات. لذلك يصبح من الخطل التفكير فى تعليب خيارات الناس لتعريف انفسهم لان هذا اصبح خيارا شخصيا بامتياز.
ومن ثم فان الدولة التى يمكن ان تقوم يجب ان تركز بشكل اساسي على بناء مؤسسات تسمح للناس بالتعبير عن انفسهم. فاذا سئل اى مهمش يقاتل فى الاحراش او اى مواطن فى المركز يكافح من اجل لقمة العيش اذا سئل كلاهما فهما لا يريدان الا دولة توفر لهم الحياة الكريمة. وما حلم الهجرة والماسى التى نتجت عنها الا اصدق تعبير عن ما يحلم به كل سودانى بشكل متساوى , لذلك فان هذه المساواة فى الحلم بالمستقبل المؤسس على الحياة الكريمة يستحق ان يكون الارضية الجامعة لحلم المشروع الوطنى القادر على جمع كل السودانيين فى شكل كتلة تاريخية طوعية تصنع وطنا نختار جميعا الانتماء له لانه يحقق لكل فرد حلمه فى تحقيق ذاته مع احتفاظه بكل محددات هويته. لذلك فان التواضع على حقيقة ان الدولة التى بنيت منذ الاستقلال على اسس اثنية وهوية احادية هى دولة فاشلة , وان هناك دولة اخرى يمكن انشاءها بتوافق مبدئى على ان الحرية والمساواة والكرامة الانسانية هى قيم عليا لهذه الدولة , هذا التوافق هو اول متر مربع فى ارضية المشروع الوطنى الذى قد ينجح فعليا عبر خطوات عملية فى احداث قطيعة مع تاريخ مرير, لازال هناك امل فى تجاوزه حتى هذه اللحظة , لكن امكانيات هذه القدرة على التجاوز بشكلها الايجابى تتضاءل مع كل لحظة تمر دون عمل جاد نحو تحقيق المساومة التاريخية المؤدية لصناعة وطن للجميع.
nawayosman@gmail.com

Share on Google Plus

عن المدون gazalysidewalk.com

هنا نبذة عن المدون ""
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 comments:

إرسال تعليق