عثمان نواي
في الأيام الماضية انتشر تسجيل
لمدير جامعة سودانية يبدو أنه يتحدث الي صديق له واصفا الحال المزرى للسودان من
وجهة نظره. وبعد سرد حقائق عدة تبدو منطقية، دلف الرجل الي إيضاح تحليله لأسباب كل
أزمات السودان وارجع هذه الأسباب بكل بساطة الي أن أشخاص بأسماء غريبة وبدون أخلاق
ولا يمكنهم التعرف علي جدودهم ابعد من الجد الثالث وأنهم لا يعرفون حتي أسماء أمهاتهم،
هم الذين سببو ا أزمة أخلاقية في السودان أدت إلي الانهيار الأخلاقي والفساد الذي
تعيشه البلاد. وفي مجمل استعراضه لجملة هذه الأسماء ذكر اسم وزير الصحة بحر ابو
قردة وذكر اسم شخص آخر يدعي (كجو) ادعي انه يعمل في منصب عالي.. وقال مدير الجامعة
انه لا يعرف كيف ينادي هؤلاء وكيف ينطق أسمائهم.. ودعا (اولاد السودان وأولاد
البلد للعودة الي السودان) حتي يتمكنوا من إعادة الأخلاق لهذا البلد.
وردا على صاحب هذا التسجيل انتشرت
تسجيلات أخرى عديدة استهجنت واستنكرت وأبرزت الكثير من القضايا التي اتضحت من خلال
حديث هذا الرجل من ضمنها العنصرية والتعالي وأشار البعض الي أزمة النخب من
المتعلمين الذين لازالوا يفكرون بهذه الطريقة كما اندهش البعض من أن مدير جامعة
يفكر بهذا الشكل.. لكن الحقيقة أن دهشة الناس هي التي سببت لي الدهشة.. بعيدا جدا
عن كل الأزمات التي يحتويها التسجيل والتي عبر عنها المتحدث... فإن ما عبر عنه
الرجل يمثل تماما طبقة النخب السياسية وهذه بالضبط هي طريقة تفكيرها.. والعبرة
بالنتائج كما يقولون… والا فكيف يظن المندهشون والمستهجنون أن الإبادة الجماعية
تمت في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وجنوب السودان.. وعلي يد من كانت، ومن
الذي أمر بها؟ هل كان علي عثمان محمد طه حارس حديقة الحيوان ام خريج جامعة
الخرطوم؟ ألم يكن الترابي بائع احلام الحور العين للمجاهدين خريجا من الدراسات
العليا في السوربون..؟ ألم يكن الصادق المهدي الذي جند المليشيات والمراحيل واساس
الجنجويد دارسا في أكسفورد؟
كيف يستعجب الناس هكذا تسجيل من
مدير جامعة ونحن نرى مدي التدهور المزرى في التعليم العالي في السودان ونرى جحافل
الذاهبين الي داعش ومغتصبي الأطفال والفاسدين الذين تخرجهم الخلاوي والمدارس
والجامعات؟ كيف يستنكر احد علي الرجل قول مشاعره في دولة رئيسها يعتبر الاغتصاب
الجماعي لنساء شعوب كاملة من قبل مجموعات معينة هو فخر لهن، بينما تأتي الرواية
لهذا الموقف علي لسان خريج السوربون...
ان النخب السودانية عالية التعليم
هذه هي لب أزمة السودان... فهي وان تعلمت في ارقي الجامعات الا انها لم ترقي ابدا
الي مستويات المقاييس الأكاديمية الدولية الغربية ما بعد نيلها للدرجات العلمية…
خاصة أن الحصول علي مناصب أكاديمية ثابتة أو ذات قيمة في نفس المؤسسات الغربية
التي تعلموا فيها أو مستوى أعلي منها تتطلب درجات خاصة من التحصيل العلمي والبحث
والنشر المستمر في الدوريات العلمية... حيث أنه من الملاحظ هروب كثير أو اغلب حملة
الدكتوراة من الغرب الي الدول الخليجية.. ليس فقط حبا في جمع المال... ولكن هربا
من المقاييس الأكاديمية القاسية للحفاظ علي مناصب أكاديمية في الجامعات الغربية
المرموقة... ولذلك لا نجد كثير من أصحاب ألقاب الدكتور والبروفيسور السودانيين
حاضرين في مراكز البحث الغربية أو يكتبون علي صفحات المجلات المُحكّمة الدولية...
ولا نجد كتابا سودانيين من الأكاديميين لهم أصوات علي صفحات الواشنطن بوست ولا
النيويورك تايمز.. دفاعا أو تحليلا لوضع السودان.. حيث أن هذه معايير عالية جدا لا
تحب النخب السودانية الكسولة الاجتهاد للوصول إليها.. ولهذا تتستعرض عضلاتها وتمرح
في السودان حيث يمتلكون السلطة ويفصلون المقاييس علي مقاسهم وحسب كلهم وبناءاا علي
امتيازاتهم المتوارثة.. أما البقية التي تهرب من السودان تكتفي بالبقاء في إطارها
العربي الذي لا يفرض عليها تحديات اللغة والمقاييس العليا للعمل الأكاديمي.. هذا
لا يعني أن هناك عدد قليل من الأكاديميين المجتهدين ولكن للأسف لاا يشكلون سوي
النسبة الأضعف . ونجدهم دوما بعيدين عن القضايا السياسية الراهنة اما لانشغالهم
بالبحث فيها أو خارجها أو لأنهم زاهدين اصلا في التعامل مع الأزمات السودانية
وتنازلوا عن دورهم في الاستنارة كنخب متعلمة ومثقفة واكتفوا بدورهم الأكاديمي
البحت..
هذا بالطبع لا ينفصل ابدا عن رؤية
منصور خالد القديمة حول النخب السودانية وادمان الفشل.... غير أن هذا الفشل في
العقود الأخيرة تحول الي إدمان القتل والفساد والتعصب العنصرى وادمان تزييف
التاريخ وادمان الهروب من المحاسبة على الأخطاء.. وغيرها من انواع الادمان التي
تغيب اي امل في استنارة او حلول عميقة تنتج عن تنازلات واعية من أطراف الأزمة خاصة
الموجودين تاريخيا في السلطة سواء في نظام الإنقاذ أو خارجه... للأسف أن النخب
السودانية عالية التعليم تعيش حالة من الغرق في النرجسية والأنا العالية التي
تجعلهم قادة ولكن للأزمات فقط.. ولذلك حديث هذا المدير الجامعي ليس ببعيد عن حديث
الصادق المهدي قبل أيام ورغبته في التملص من أي مسؤولية تجاه أخطاؤه كحاكم، وليس
ببعيد عن ما قام به قاسم بدرى قبله.. هي كلها منظومة الفشل والهروب والجرائم
اللااخلاقية.. حيث انعدام الأخلاق الذي تحدث عنه الرجل ماهو الا انعكاس لانعدام
أخلاق هذه النخب التي تقود البلاد من القصر الي الفصل الدراسي مرورا بالجامعات
والأحزاب وغيرها.. أما حديث الرجل عن أصحاب الأسماء الذين يجدهم بلا أخلاق وسبب
فساد البلد الأخلاقي، فلماذا لا يذهب الي إدارات الثراء الحرام والمراجع العام حتي
يقارن نسب وجود هذه الأسماء مع نسب الأسماء التي تشبه اسمه شخصيا... من يسيطرون
علي السلطة هم الذين يفسدونها أو يصلحونها... أو ليس عمر حسن أحمد البشير هو ولي
أمر هذه البلاد فيجب أن يسأله وهو بالتأكيد يعرف كيف يناديه فلماذا لا يسأله كيف
سمح للبلد بالوصول الي هذه الدرجة من الفساد أن لم يكن هو نفسه مصدر ذلك الفساد…
للأسف أن مثل هذا الرجل عالي
التعليم وغيره من الصامتين أو المتحدثين على ضفتي الأزمة السودانية في المعارضة أو
الحكومة هم جميعا مسؤولين مباشرة عن أزمة السودان... وما يحدث الآن ما هو نتيجة
الا للعطب الجوهري في تركيبتهم الذهنية المبنية علي فقه الغنيمة واستسهال الطريق
للقمة والاستغراق في عبادة ذواتهم المشوهة حتي أضاعوا السودان وأهله بقراراتهم
الخاطئة في السلطة والجرائم التي ارتكبوها كحكام منذ الاستقلال وبجبنهم وصمت الجزء
الآخر منهم الذي لم يصل الي السلطة.. وانشغالهم بممارسة ترف الحياة في داخل
الصوالين يحكمون البلاد بشللياتهم التي بها يصنعون حكومات ويسقطون اخري ويهزمون
الثورات ويقدمون البلاد لقمة سائغة في يد النظم الديكتاتورية التي هي الأخرى عبارة
شلليات أخرى عسكرية أو جهادية متطرفة كالتي تحكمنا منذ 30 عاما… لذلك لا يعبر
الرجل المتحدث في التسجيل عن نفسه بل يتحدث بلسان نخب بأكملها لا تختلف عنه كثيرا
في العنجهية والتعالي..
nawayosman@gmail.com
0 comments:
إرسال تعليق