بقلم عثمان نواى
التقسيم الطبقى
وتراكم الثروة على اسس اثنية : نموذج جبال النوبة
ان اراضى جبال
النوبة التى تعتبر من افضل واهم الاراضى الزراعية فى السودان تعرضت خلال فترة
الحكم الاستعمارى وبعد ذلك اثناء كل الحكومات الوطنية المتعاقبة الى درجات استغلال
واسعة ادت الى عملية افقار ممنهج صاحبها اشكال مختلفة من التمييز الاثنى والطبقى
الذى عانى منه اهل جبال النوبة. هذا التمييز والاستغلال والاضطهاد كانت ملكية
الارض واستغلالها كمورد تراكم للثروة , سببا رئيسيا فى اشتعال النزاعات فى المنطقة
, حيث ان قوانين الاراضى قد استخدمت بشكل ادى الى ان تكون المجتمعات فى جبال
النوبة مهددة دوما بالافقار والطرد من اراضيها. ولهذا كانت عملية تراكم راس المال
التى شكلت طبقة غنية من اثنيات معينة تمارس الاستغلال الطبقى بينما كان لديها
السلطة ايضا لتمارس الاضطهاد الاثنى ايضا. ولذلك فان الوضع المركب فى جبال النوبة
كان محل تقدير بشكل اكبر فى عهد الاستعمار الذى كان له محاولة فى حماية صغار
المزراعين النوبة من استغلال التجار من المركز الذين كانوا يبحثون عن فرص الاغتناء
على حساب هؤلاء الفلاحين. يقول الدكتور عطا البطحانى فى تحليل اوضاع المنطقة ابان
الاستعمار فيما الاستثمار فى الارض والزراعة ” كان الدافع الخاص وراء استثناء راس
المال الخاص المحلى والاجنبى هو القلق على المزارعين الصغار من جبال النوبة , فكان
هناك تخوف من ان يتم تهميش صغار المزارعين وان يتعرضوا الى انواع اخرى من التمييز
لكن العلاقات مع بعض القيادات الاهلية فى المنطقة والسطوة التى كان يمتلكها هؤلاء
التجار نتيجة لملكيتهم راس المال , قد ادت الى ان يكسروا فى النهاية الحظر الذى
كان مفروضا عليهم اثناء فترة سريان قانون المناطق المقفولة. كما ان الوضع سار
باتجاه تسارع وجود راس المال الوطنى فى جبال النوبة فى الاستثمار فى الزراعة
وامتلاك الاراضى فى النصف الثانى من اربعينات القرن الماضى . ويصف البطحانى ما جرى
بعد تمكن هؤلاء التجارمن تحقيق هدفهم بقوله”: فقد استثمر كبار مزارعى القطن من
الجلابة راسمالهم فى تنظيف الارض واستئجار العمالة للقيام بالعمليات الزراعية , من
هنا كانت عملية تراكم راس المال التى مكنت الجلابة فى الظهور كراسماليين زراعيين
هى نفسها الى ادت الى تهميش الفلاحين النوبة. “ اذن فان ماخشى منه الإنجليز زمن
الاستعمار قد تم فعليا , وهو تهميش االفلاحين النوبة , الذين اصبحوا مجرد عمال
زراعيين داخل ارضهم التاريخية . حيث ان عملية استغلال الارض لزراعة القطن والتى
بدات فى عشرينيات القرن الماضى كانت تتطلب راس مال كبير لتنظيف الارض والعمليات
الزراعية. لذلك لم يتمكن صغار المزارعين من استصلاح اراضى واسعة كما انهم لم
يحصلوا على التمويل الكافى لذلك من الحكومة. لذلك تمكن التجار من القيام باستصلاح
وتنظيف اراضى واسعة, حيث يقدر البطحانى ان بعض هؤلاء التجار استصلح وزرع اكثر من
50 الف فدان فى الفترة من 1924 الى 1945. هذا رغم ان الانجليز كانوا يمنعون تمليك
الاراضى لهؤلاء التحار لكنهم تحصلوا عليها بعلاقاتهم وراسمالهم المغرى للقيادات
الاهلية. بينما ظل الفلاحين النوبة يمتلكون المساحات الاصغر من الارض وبالتالى كان
التجار يزدادون غنى عبر قدرتهم على تملك واستصلاح اراضى جبال النوبة بينما تحول
النوبة الى عمال زراعيين او فلاحين واقعين تحت نير المديونية. يوضح الجدول التالى
من كتاب البطحانى حول الاثنية السياسية والحركة الفلاحية فى جبال النوبة, يوضح
مساحات الارض حسب الاثنيات التى تمتلكها.
هذا التقسيم يوضح
مدى الاجحاف الذى وقع على النوبة وهم اصحاب الارض, حيث اصبحوا هم الفقراء والطبقة
التى تمتلك اقل مساحة ارض مزروعة مما ادى الى حالة مستمرة من العوز والفقر
والاضطرار احيانا الى النزوح بحثاعن عمل فى اماكن اخرى من السودان. ومن اهم
الدراسات التى اكدت على اهمية دور الارض في النزاع الجارى فى جبال النوبة وحال
الاضطهاد المستمر للسكان هناك , دراسة دكتور جمعة كند بعنوان الارض والحكم
والنزاعات فى جبال النوبة والتى صدرت عام 2010, حيث اكد على ان هذا التوزيع غير
العادل قد كان سببا مباشرا فى تاجيج الصراع فى المنطقة. هذه الوضعية تفاقمت
وازدادت سوءا بعد الاستقلال , حيث زاد التوسع فى مشاريع الزراعة بشكل انفجارى
واصبحت هناك تسهيلات كبيرة من قبل الحكومات التى تسيطر عليها اثنيات معينة فى منح
الاراضى بشكل عشوائى لكبار التجار والموظفين الذين لا علاقة لهم بالمنطقة على
الاطلاق. “ ان القادة العسكريين فى سياق توسيع القاعدة الاجتماعية لحكمهم فى اوساط
الجلابة والزعماء التقليديين , لم يابهوا كثيرا للوائح فتم تخفيف القيود وتجاوز
الاعتبارات الفنية والى التعديلات لتسهيل عملية تسجيل الاراضى بواسطة الموظفين
الحكوميين.” بالنتيجة فان نمط توزيع الاراضى لكسب ود القواعد الاجتماعية لدعم
الحكومات استمر على حساب اهل جبال النوبة , الذين اصبحوا ضيوفا داخل ارضهم. يقول
البطحانى حول فترة الحكم الوطنى بعد الاستعمار فى التعامل مع مزراعى جبال النوبة
وارضهم:” ان النتيجة الهامة المستمدة من هذه الاحداث هى الطريقة التى انحازت بها
الدولة ما بعد الاستعمار ضد الفلاحين النوبة ولصالح التجار والبيروقراطيين الذين
ينحدر اغلبهم من الشمال... فى يوليو 1961 وزعت الحكومة 24 مشروعا جنوب شرق هبيلة.
ومن بين اصحابها ال24 كان 18 من التجار, عاش وعمل ثمانية منهم فى الاقليم وجاء
العشرة الباقين من خارج الاقليم وعمل احدهم محاميا..” ولم يكن يدخل الى خزينة
الدولة اى مبالغ لكى تعاد فى شكل خدمات لاهل منطقة جبال النوبة, حيث كان يطلب منهم
فقط دفع 100 جنيه رسم تنمية, بينما يتم منح كل راسمالى مساحة تبلغ 1500 فدان,
بايجار 5 قروش فقط للفدان . ويؤكد على ان هذه الممارسات استمرار ما كتبه دكتور
قندول حول مشاريع هبيلة حيث قال:” وفى السبعينات من القرن الماضى فى منطقة هبيلا ,
تم انشاء 200 مشروع زراعى ..ولكن للاسف كانت القسمة ضيزى. فقد آلت 4 مشاريع
للجمعيات التعاونية المحلية, واستاجر مشروع واحد لمجموعة من التجار المحليين,
واربع لافراد من السكان , اما 191 مشروعا الباقية فقد تم توزيعها وتمليكها لافراد
غائبين عن المنطقة , هم بصورة رئيسية التجار القاطنين فى مجن مثل الخرطوم, امدرمان
والابيض .” على الرغم من ان المرزاعين الصغار من المنطقة كان يجب ان تكون لهم
الاولوية , نظريا فى الحصول على الاراضى الزراعية والمشاريع , الا ان انعدام
التمويل واشتراط البنوك لضمانات عالية جعل الحصول على ا لتمويل فقط من نصيب كبار
الموظفين والتجار, حتى القيادات الاهلية من المنطقة كثيرا ما فشلت فى زراعة
الاراضى التى تحصلت عليها واضطرت الى التخلى عنها او ايجارها للتجار او
الراسماليين من المركز. حيث كانت الارباح من الزراعة عالية جدا وتصل الى اكثر من
20 % سنويا على اقل تقدير.
لقد شكلت ازمة انعدام التمويل عائق رئيسي ادى لمزيد من افقار اهل جبال النوبة الذين كانوا مضطرين الى التعامل بنظام الشيل. وهو النظام المحلى المتعارف عليه فى معظم مناطق السودان من بينها الجزيرة وكل المناطق الاخرى. وهو نظام اقراض يعمق من عملية الاستغلال التى يتعرض لها المزارعون الصغار وكثيرا ما تؤدى الى فقدهم السيطرة على ملكية اراضيهم تحت وطاة الديون , او ان يضطروا الى العمل كعمال فى اراضى المقرضين وترك اراضيهم دون زراعة حتى يسددوا الدين. حيث ان التمويل كان محصورا على اصحاب الضمانات التى تقبلها البنوك, اما الحكومات المتعاقبة الوطنية ومن قبلها الاستعمارية فلم تقوم ابدا بجهد ينهى نظام الشيل او انشاء اى صناديق ائتمانية تحمى صغار المزارعين من المقرضين الذين كان معظمهم من التجار المحليين واصحاب راس المالى الوطنى والاسر الطائفية والبريوقراطية التى عملت كوكلاء تمويل للبنوك الكبرى مثل باركليز وغيرها. ولكن على مستوى المرزاعين الصغار فى مناطق جبال النوبة فليس من مصلحة الحكومات العمل ضد مصالح التجار الذين يدعمون هذه الحكومات, لذلك دوما تم رفض وتعطيل اى مكالب بتكوين برامج تمويل حكومية تحرر المزراعين من الشيل الذى افقرهم وحول بعضهم الى العمل فيما يشبه القنانة الحديثة فى اراضى المقرضين. حيث ان الفوائد على القروض كانت تصل احيانا كثيرة الى 300%. وهذا الواقع حدث فى الجزيرة والمشاريع الزراعية الاخرى خاصة للعمال الزراعيين والمرزاعين الصغار, وهو وسيلة اخرى للاستيلاء على الموارد باقل الاسعار. والنظام هو عملية شراء المحاصيل بثمن بخس قبل حصادها, حتى يحصل المزارعين على اموال لشراء احتياجاتهم الغذائية , والتى فى اغلب الاحيان يشترونها من التجار الذين اقرضوهم فى الاصل, وبالتالى يتحكم الممول فى الثمن للسلع الذى يكون مرتفع بينما المحصول سعره هو دوما اقل من سعر السوق واقل من القرض وبالتالى يكون المزارع فى حالة دين مزمن. ولهذا هجر كثير من صغار المزارعين ارضهم بل وهجروا المنطقة كلها, كما ان هذا النظام الاستغلال كان احد مسببات تنامى الغضب فى جبال النوبة اضافة الى عمليات نزع الاراضى بشكل جائر ولصالح مجموعات معينة, مما ادى الى انضمام اعداد كبيرة من الشباب فى وقت لاحق الى الحركة الشعبية وحمل السلاح.
من اهم دلائل التمييز والتعامل المجحف للغاية من قبل الحكومات الوطنية ضد اهل جبال النوبة هو عمليات الرفض المستمر لقيام اتحاد المزارعين, وبعد الموافقة على قيامه لاسباب تتعلق بالبحث عن الدعم الانتخابى ما بعد الاستقلال , تم رفض معظم المشروعات التنموية التى تقدم بها لتحسين اوضاع النوبة المزارعين. من اهم تلك المشاريع التى رفضت , كان رفض الحكومة المركزية طلب الاتحاد من طلاب جامعة الخرطوم المساعدة فى حملة محو امية المزراعين فى المنطقة. حيث انه فى ابريل 1957, اصدرت الحكومة من الخرطوم قرارا يمنع منعا باتا اى مشاركة فى حملة محو الامية فى المنطقة , حيث كان لدى الحكومة شكوك ان الشيوعيين هم خلف الحملة. ان هذا القدر من التمييز وانعدام الرؤية السياسية هو الذى ولد الازمات التى لازالت تعانى منها المنطق والسودان ككل. هذا بالتاكيد اضافة الى نظام الضرائب الذى استمر فى فرض ضريبة الدقنية والتى هى تفرض على كل رجل بلغ 15 عاما, والتى فرضها الانجليز عام 1925 بديلا عن العشور وغيرها من انواع الضرائب فى منطقة جبال النوبة وغيرها. ورغم ان الضريبة الغيت فى كل السودان بعد الاستقلال الا انها كانت مستمرة فى جبال النوبة تحت الحكومات الوطنية حتى مطلع الستينات , حتى انها كانت تفرض وتجمع من النوبة الذين يقيمون فى العاصمة. وعندما احتج النوبة المقيمون فى العاصمة فى مطلع الستينات وقالوا انهم مقيمون فى العاصمة منذ عقود ويدفعون ضريبة كسكان فيها قال لهم المسؤولون انتم لازلتم تمتلكون ارضا فى جبال النوبة. فى اشارة الى انهم لا يمكن ان يكونوا سوى من جبال النوبة, ويجب دوما ان يتذكروا انهم مجرد مواطنين مؤقتين فى الخرطوم . ازمة ضريبة الدقنية كان يستخدم فيها درجات عالية من العنف حيث تتم مصادرة المنازل والممتلكات فى حالة عدم الدفع فى الجبال او فى الخرطوم.
انه فى الوقت الذى يتم منح الاراضى الواسعة بابخس الاثمان ودون اى ضرائب تذكر للتجار والموظفين من المركز فى جبال النوبة, تنكر الحكومة على النوبة المقيمين فى الخرطوم مواطنيتهم فى المركز, وتجبرهم على ان يشعروا بانهم لا ينتمون الى هذا المكان بل يجب عليهم ان يكونوا دوما جزءا من مكان اخر, هو ارضهم الاصلية . لكن اى ارض تلك تبقت لهم وقد انتزعت منهم وسلمت لغيرهم. اى فى النهاية المحصلة ان المواطنين فى هذه الحالة يعتمل لديهم شعور دائم بعدم الاستقرار وانكار حقوق المواطنة الدائمة والثابتة اينما ذهبوا. فى المقابل المواطن الذى هو محمى بكل انواع القوانين وامكانيات الدولة والعلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بحكم انتماؤه الاثنى للمجموعات الحاكمة, هذا المواطن من الدرجة الاولى لا يشعر باى مسؤولية تجاه الارض التى يمتلكها فى جبال النوبة مثلا. فلا يكترث سوى بتراكم راس المال على حساب اهل المنطقة وعلى حساب بيئتها وبالتالى ياخذ امواله ويذهب بها الى الخرطوم او الى حيث جاء. هذا التناقض الممنهج الذى هو تمييز واضح مارسته الدولة السودانية الوطنية التى جرت البلاد فى النهاية بهذه السياسات الرعناء الى حروب لازالت مستمرة بعد 60 عاما على الاستقلال.
ان التقسيم الطبقى على المستوى الاقتصادى فى السودان يقف على حدود الفواصل الاثنية بشكل لا يمكن انكاره. فان التراكم التاريخى للثروة والسلطة للمركز قد اسهم فى حدوثه بشكل مباشر ارث ممارسة امتلاك وتجارة الرقيق التى قامت بتركيز الثروات فى المركز السلطوى الذى يملك الرقيق الذى يقوم بخدمته وزيادة ثروة الملاك عبر العمل فى الزراعة والرعى وخدمة المنازل وغيرها , هذا قبل قيام الدولة الحديثة وبداية مشاريع التنمية فى عهد الاستعمار. ثم اتى الاستعمار ليقوم بالتحالف مع اصحاب الثروة والسلطة الموجودين والحفاظ على سلطته الامبريالية من خلالهم وتوظيفهم لحماية وجوده, فقام بالتمكين لهم واعطائهم مزيد من النفوذ على حساب بقية مكونات السودان. لذلك فان المستعمر قد اسهم بقدر كبير فى تعميق التمييز الاثنى وتركيز الثروة والسلطة فى ايدى ورثة ملاك وتجار الرقيق السابقين. وبالتالى فان عملية انتقال السلطة والثروة ظلت منحصرة فى داخل دائرة مغلقة لم تتيح اى حراك يؤدى الى صعود اجتماعى واقتصادى الا داخل الحدود الاثنية والثقافية للمجموعات المهيمنة فى المركز. ولذلك اصبحت الدولة ما بعد الاستقلال هى جزء من هذه المنظومة الاثنية العنصرية , بل اصبحت الدولة مجرد اداة لتنفيذ المزيد من الهيمنة من قبل المجموعات المسيطرة. حيث ان هناك بعض احفاد تجار الرقيق المعروفين تاريخيا لا يزالون يعيشون الى الان على ما ورثوه من اجدادهم من متلكات وثروات جعلتهم لايضطرون للعمل فى حياتهم على الاطلاق لاجيال متتالية. ولكن بشكل عام فان التراكم الجمعى للثروة فى داخل اطار اثنى او قبلى معين يساعد على عمليات الانتقال السريع من الطبقة الفقيرة الى الوسطى او الغنية , حيث هناك مسارات مفتوحة للترقى الاجتماعى لاصحاب الاثنية المهيمنة على السلطة فى السودان.
فى الجانب الاخر فان القادم من الهامش السودانى سيعانى من الفقر اضافة الى التمييز واغلاق سبل الترقى بسبب التحيزات الاثنية والتمييز والعنف الاجتماعى والسياسي والاقتصادى الذي يستمر فى دفعه الى اطراف المجتمع اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. فالعوائق تبدا من السكن فى الاماكن الطرفية والتعرض لخطر التهديم المستمر وعدم الاستقرار والذى يصحبه ازمة فى ايجاد العمل وصعوبة الحركة للوصول الى مراكز العمل من المناطق السكنية البعيدة فى اطراف المدينة, هذا اضافة الى انعدام الخدمات من صحة وتعليم وكهرباء . وفى النهاية فان الاسرة التى يحاول فيها الام والاب وربما بعض الاخوة الكبار العمل لتحسين فرص الاصغر سنا , لا يجدون اى دعم من اقربائهم لانهم يعيشون نفس الظروف, كما انهم بالتاكيد لا يجدون من الدولة سوى العنف والتنكيل والابعاد والمزيد من المعاناة . فيما يقوم المجتمع من حولهم الى تحويلهم الى ايدى عاملة رخيصة, ليس لها حقوق وتعيش على الحد الادنى الذى لا يسمح ابدا بالخروج من دائرة الفقر والعوز والتمييز . فحتى الترقى الاجتماعى والاقتصادى عبر التعليم يصطدم بعوائق التكاليف العالية والتمييز فى التوظيف حتى بعد الحصول على شهادات مهما كانت درجتها. لكن فى المقابل فان القادم الى العاصمة مثلا من الشمال النيلى قد يجد صعوبة فى البداية لكنه يحصل على دعم بعض المستقرين فى اوضاع اقتصادية افضل منه ويجد الطرق سالكة نحو فرص العمل مهما كانت سواء فى السوق او الخدمة العامة او القوات النظامية, حيث تتيح له شبكة العلاقات الاجتماعية ايجاد الدعم , وهذا هو احد اهم اشكال الامتيازات الخفية التى تجعل كسر التراتبية الاجتماعية الاقتصادية المبنية على الاثنية امرا صعبا للغاية. وقد لاحظت يوشيكو كوريتا الفارق الكبير فى مصير الافندية فى عهد الاستعمار بعد انتهاء فترات خدمتهم, سواءا العاملين فى الوظائف المدنية او العسكرية. اذ ان هناك تباين فى الفرص المتاحة للاستمرار فى عيش حياة كريمة بالنسبة" للزنوج " او الاثنيات الافريقية بشكل عام, وخاصة المنبتين قبليا واحفاد وابناء الرقيق السابقين" وبين زملائهم من الاثنيات العربية والمنتمين لقبائل وشبكات اجتماعية مرتبطة بالاثنية المسيطرة تاريخيا. تقول كوريتا :" كان الافندية ذوى الاصل الشمالى ( العربى) والافندية ذوو الاصول الزنجية متساوين فى مايتعلق بالرتبة والمرتب طالما كانوا فى الخدمة , وكانوا يعيشون فى وضع مستقر نسبيا. لكن عندما يفصلون من الخدمة مثلا, فان الوضع يختلف. اذ يستطيع الافندية ذوو الاصل الشمالى ( العربى) العيش اعتمادا على الروابط العائلية والقبلية فى الشمال . فهم ينتمون قبل كل شىء للمجتمع الشمالى ويشاركون الزعماء القبليين والدينيين الشبكات الاجتماعية.[ (كوريتا 1997، ص100)]" ان هذه القدرة على الاعتماد على الصلات والشبكات الاجتماعية, هى التى تشكل قاعدة دعم مستمرة للحفاظ على الامتيازات التى يوفرها الانتماء الى الاثنية العربية فى السودان, سواء بين الطبقات الفقيرة او المتوسطة فى داخل الاثنية نفسها. حيث ان الحفاظ على السيطرة على الدولة ومواردها يعنى استمرار دوران الامتيازات فى دوائرها المغلقة اثنيا وعدم مشاركاتها مع المكونات السودانية الاخرى. واحدى اهم وسائل الحفاظ على هذه الهيكلة الاجتماعية الاقتصادية لاحتكار السلطة والثروة هو ممارسة التمييز العنصرى الممنهج وتحديد الحصول على حقوق المواطنة على اسس اثنية, واهم هذه الحقوق هو حق ملكية الارض واستغلالها فى السكن والزراعة وغيرها.
لقد شكلت ازمة انعدام التمويل عائق رئيسي ادى لمزيد من افقار اهل جبال النوبة الذين كانوا مضطرين الى التعامل بنظام الشيل. وهو النظام المحلى المتعارف عليه فى معظم مناطق السودان من بينها الجزيرة وكل المناطق الاخرى. وهو نظام اقراض يعمق من عملية الاستغلال التى يتعرض لها المزارعون الصغار وكثيرا ما تؤدى الى فقدهم السيطرة على ملكية اراضيهم تحت وطاة الديون , او ان يضطروا الى العمل كعمال فى اراضى المقرضين وترك اراضيهم دون زراعة حتى يسددوا الدين. حيث ان التمويل كان محصورا على اصحاب الضمانات التى تقبلها البنوك, اما الحكومات المتعاقبة الوطنية ومن قبلها الاستعمارية فلم تقوم ابدا بجهد ينهى نظام الشيل او انشاء اى صناديق ائتمانية تحمى صغار المزارعين من المقرضين الذين كان معظمهم من التجار المحليين واصحاب راس المالى الوطنى والاسر الطائفية والبريوقراطية التى عملت كوكلاء تمويل للبنوك الكبرى مثل باركليز وغيرها. ولكن على مستوى المرزاعين الصغار فى مناطق جبال النوبة فليس من مصلحة الحكومات العمل ضد مصالح التجار الذين يدعمون هذه الحكومات, لذلك دوما تم رفض وتعطيل اى مكالب بتكوين برامج تمويل حكومية تحرر المزراعين من الشيل الذى افقرهم وحول بعضهم الى العمل فيما يشبه القنانة الحديثة فى اراضى المقرضين. حيث ان الفوائد على القروض كانت تصل احيانا كثيرة الى 300%. وهذا الواقع حدث فى الجزيرة والمشاريع الزراعية الاخرى خاصة للعمال الزراعيين والمرزاعين الصغار, وهو وسيلة اخرى للاستيلاء على الموارد باقل الاسعار. والنظام هو عملية شراء المحاصيل بثمن بخس قبل حصادها, حتى يحصل المزارعين على اموال لشراء احتياجاتهم الغذائية , والتى فى اغلب الاحيان يشترونها من التجار الذين اقرضوهم فى الاصل, وبالتالى يتحكم الممول فى الثمن للسلع الذى يكون مرتفع بينما المحصول سعره هو دوما اقل من سعر السوق واقل من القرض وبالتالى يكون المزارع فى حالة دين مزمن. ولهذا هجر كثير من صغار المزارعين ارضهم بل وهجروا المنطقة كلها, كما ان هذا النظام الاستغلال كان احد مسببات تنامى الغضب فى جبال النوبة اضافة الى عمليات نزع الاراضى بشكل جائر ولصالح مجموعات معينة, مما ادى الى انضمام اعداد كبيرة من الشباب فى وقت لاحق الى الحركة الشعبية وحمل السلاح.
من اهم دلائل التمييز والتعامل المجحف للغاية من قبل الحكومات الوطنية ضد اهل جبال النوبة هو عمليات الرفض المستمر لقيام اتحاد المزارعين, وبعد الموافقة على قيامه لاسباب تتعلق بالبحث عن الدعم الانتخابى ما بعد الاستقلال , تم رفض معظم المشروعات التنموية التى تقدم بها لتحسين اوضاع النوبة المزارعين. من اهم تلك المشاريع التى رفضت , كان رفض الحكومة المركزية طلب الاتحاد من طلاب جامعة الخرطوم المساعدة فى حملة محو امية المزراعين فى المنطقة. حيث انه فى ابريل 1957, اصدرت الحكومة من الخرطوم قرارا يمنع منعا باتا اى مشاركة فى حملة محو الامية فى المنطقة , حيث كان لدى الحكومة شكوك ان الشيوعيين هم خلف الحملة. ان هذا القدر من التمييز وانعدام الرؤية السياسية هو الذى ولد الازمات التى لازالت تعانى منها المنطق والسودان ككل. هذا بالتاكيد اضافة الى نظام الضرائب الذى استمر فى فرض ضريبة الدقنية والتى هى تفرض على كل رجل بلغ 15 عاما, والتى فرضها الانجليز عام 1925 بديلا عن العشور وغيرها من انواع الضرائب فى منطقة جبال النوبة وغيرها. ورغم ان الضريبة الغيت فى كل السودان بعد الاستقلال الا انها كانت مستمرة فى جبال النوبة تحت الحكومات الوطنية حتى مطلع الستينات , حتى انها كانت تفرض وتجمع من النوبة الذين يقيمون فى العاصمة. وعندما احتج النوبة المقيمون فى العاصمة فى مطلع الستينات وقالوا انهم مقيمون فى العاصمة منذ عقود ويدفعون ضريبة كسكان فيها قال لهم المسؤولون انتم لازلتم تمتلكون ارضا فى جبال النوبة. فى اشارة الى انهم لا يمكن ان يكونوا سوى من جبال النوبة, ويجب دوما ان يتذكروا انهم مجرد مواطنين مؤقتين فى الخرطوم . ازمة ضريبة الدقنية كان يستخدم فيها درجات عالية من العنف حيث تتم مصادرة المنازل والممتلكات فى حالة عدم الدفع فى الجبال او فى الخرطوم.
انه فى الوقت الذى يتم منح الاراضى الواسعة بابخس الاثمان ودون اى ضرائب تذكر للتجار والموظفين من المركز فى جبال النوبة, تنكر الحكومة على النوبة المقيمين فى الخرطوم مواطنيتهم فى المركز, وتجبرهم على ان يشعروا بانهم لا ينتمون الى هذا المكان بل يجب عليهم ان يكونوا دوما جزءا من مكان اخر, هو ارضهم الاصلية . لكن اى ارض تلك تبقت لهم وقد انتزعت منهم وسلمت لغيرهم. اى فى النهاية المحصلة ان المواطنين فى هذه الحالة يعتمل لديهم شعور دائم بعدم الاستقرار وانكار حقوق المواطنة الدائمة والثابتة اينما ذهبوا. فى المقابل المواطن الذى هو محمى بكل انواع القوانين وامكانيات الدولة والعلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بحكم انتماؤه الاثنى للمجموعات الحاكمة, هذا المواطن من الدرجة الاولى لا يشعر باى مسؤولية تجاه الارض التى يمتلكها فى جبال النوبة مثلا. فلا يكترث سوى بتراكم راس المال على حساب اهل المنطقة وعلى حساب بيئتها وبالتالى ياخذ امواله ويذهب بها الى الخرطوم او الى حيث جاء. هذا التناقض الممنهج الذى هو تمييز واضح مارسته الدولة السودانية الوطنية التى جرت البلاد فى النهاية بهذه السياسات الرعناء الى حروب لازالت مستمرة بعد 60 عاما على الاستقلال.
ان التقسيم الطبقى على المستوى الاقتصادى فى السودان يقف على حدود الفواصل الاثنية بشكل لا يمكن انكاره. فان التراكم التاريخى للثروة والسلطة للمركز قد اسهم فى حدوثه بشكل مباشر ارث ممارسة امتلاك وتجارة الرقيق التى قامت بتركيز الثروات فى المركز السلطوى الذى يملك الرقيق الذى يقوم بخدمته وزيادة ثروة الملاك عبر العمل فى الزراعة والرعى وخدمة المنازل وغيرها , هذا قبل قيام الدولة الحديثة وبداية مشاريع التنمية فى عهد الاستعمار. ثم اتى الاستعمار ليقوم بالتحالف مع اصحاب الثروة والسلطة الموجودين والحفاظ على سلطته الامبريالية من خلالهم وتوظيفهم لحماية وجوده, فقام بالتمكين لهم واعطائهم مزيد من النفوذ على حساب بقية مكونات السودان. لذلك فان المستعمر قد اسهم بقدر كبير فى تعميق التمييز الاثنى وتركيز الثروة والسلطة فى ايدى ورثة ملاك وتجار الرقيق السابقين. وبالتالى فان عملية انتقال السلطة والثروة ظلت منحصرة فى داخل دائرة مغلقة لم تتيح اى حراك يؤدى الى صعود اجتماعى واقتصادى الا داخل الحدود الاثنية والثقافية للمجموعات المهيمنة فى المركز. ولذلك اصبحت الدولة ما بعد الاستقلال هى جزء من هذه المنظومة الاثنية العنصرية , بل اصبحت الدولة مجرد اداة لتنفيذ المزيد من الهيمنة من قبل المجموعات المسيطرة. حيث ان هناك بعض احفاد تجار الرقيق المعروفين تاريخيا لا يزالون يعيشون الى الان على ما ورثوه من اجدادهم من متلكات وثروات جعلتهم لايضطرون للعمل فى حياتهم على الاطلاق لاجيال متتالية. ولكن بشكل عام فان التراكم الجمعى للثروة فى داخل اطار اثنى او قبلى معين يساعد على عمليات الانتقال السريع من الطبقة الفقيرة الى الوسطى او الغنية , حيث هناك مسارات مفتوحة للترقى الاجتماعى لاصحاب الاثنية المهيمنة على السلطة فى السودان.
فى الجانب الاخر فان القادم من الهامش السودانى سيعانى من الفقر اضافة الى التمييز واغلاق سبل الترقى بسبب التحيزات الاثنية والتمييز والعنف الاجتماعى والسياسي والاقتصادى الذي يستمر فى دفعه الى اطراف المجتمع اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. فالعوائق تبدا من السكن فى الاماكن الطرفية والتعرض لخطر التهديم المستمر وعدم الاستقرار والذى يصحبه ازمة فى ايجاد العمل وصعوبة الحركة للوصول الى مراكز العمل من المناطق السكنية البعيدة فى اطراف المدينة, هذا اضافة الى انعدام الخدمات من صحة وتعليم وكهرباء . وفى النهاية فان الاسرة التى يحاول فيها الام والاب وربما بعض الاخوة الكبار العمل لتحسين فرص الاصغر سنا , لا يجدون اى دعم من اقربائهم لانهم يعيشون نفس الظروف, كما انهم بالتاكيد لا يجدون من الدولة سوى العنف والتنكيل والابعاد والمزيد من المعاناة . فيما يقوم المجتمع من حولهم الى تحويلهم الى ايدى عاملة رخيصة, ليس لها حقوق وتعيش على الحد الادنى الذى لا يسمح ابدا بالخروج من دائرة الفقر والعوز والتمييز . فحتى الترقى الاجتماعى والاقتصادى عبر التعليم يصطدم بعوائق التكاليف العالية والتمييز فى التوظيف حتى بعد الحصول على شهادات مهما كانت درجتها. لكن فى المقابل فان القادم الى العاصمة مثلا من الشمال النيلى قد يجد صعوبة فى البداية لكنه يحصل على دعم بعض المستقرين فى اوضاع اقتصادية افضل منه ويجد الطرق سالكة نحو فرص العمل مهما كانت سواء فى السوق او الخدمة العامة او القوات النظامية, حيث تتيح له شبكة العلاقات الاجتماعية ايجاد الدعم , وهذا هو احد اهم اشكال الامتيازات الخفية التى تجعل كسر التراتبية الاجتماعية الاقتصادية المبنية على الاثنية امرا صعبا للغاية. وقد لاحظت يوشيكو كوريتا الفارق الكبير فى مصير الافندية فى عهد الاستعمار بعد انتهاء فترات خدمتهم, سواءا العاملين فى الوظائف المدنية او العسكرية. اذ ان هناك تباين فى الفرص المتاحة للاستمرار فى عيش حياة كريمة بالنسبة" للزنوج " او الاثنيات الافريقية بشكل عام, وخاصة المنبتين قبليا واحفاد وابناء الرقيق السابقين" وبين زملائهم من الاثنيات العربية والمنتمين لقبائل وشبكات اجتماعية مرتبطة بالاثنية المسيطرة تاريخيا. تقول كوريتا :" كان الافندية ذوى الاصل الشمالى ( العربى) والافندية ذوو الاصول الزنجية متساوين فى مايتعلق بالرتبة والمرتب طالما كانوا فى الخدمة , وكانوا يعيشون فى وضع مستقر نسبيا. لكن عندما يفصلون من الخدمة مثلا, فان الوضع يختلف. اذ يستطيع الافندية ذوو الاصل الشمالى ( العربى) العيش اعتمادا على الروابط العائلية والقبلية فى الشمال . فهم ينتمون قبل كل شىء للمجتمع الشمالى ويشاركون الزعماء القبليين والدينيين الشبكات الاجتماعية.[ (كوريتا 1997، ص100)]" ان هذه القدرة على الاعتماد على الصلات والشبكات الاجتماعية, هى التى تشكل قاعدة دعم مستمرة للحفاظ على الامتيازات التى يوفرها الانتماء الى الاثنية العربية فى السودان, سواء بين الطبقات الفقيرة او المتوسطة فى داخل الاثنية نفسها. حيث ان الحفاظ على السيطرة على الدولة ومواردها يعنى استمرار دوران الامتيازات فى دوائرها المغلقة اثنيا وعدم مشاركاتها مع المكونات السودانية الاخرى. واحدى اهم وسائل الحفاظ على هذه الهيكلة الاجتماعية الاقتصادية لاحتكار السلطة والثروة هو ممارسة التمييز العنصرى الممنهج وتحديد الحصول على حقوق المواطنة على اسس اثنية, واهم هذه الحقوق هو حق ملكية الارض واستغلالها فى السكن والزراعة وغيرها.
المواطنة المؤقتة
لماذا وكيف؟
ان ما جرى لسكان الكنابى ووصفهم بانهم ليسوا مواطنين سودانيين من قبل بعض السكان فى الجزيرة , وايضا من قبل بعض من كتب فى الموضوع حتى ممن يوصفون بانهم ناشطون ومن قبل بعض السياسيين والنخب من المركز, هذا الوصف انما يؤكد على مدى تجذر عقلية التمييز المستندة على ارث ممارسة الرقيق على المستوى الثقافى والسياسيى حتى يومنا الراهن. فلقد تحولت علاقات الرق القديمة الى علاقات انتاج غير منصفة فى داخل الذهنية المركزية التى تسيطر على السلطة والثروة وتهيمن على الحراك السياسى والثقافى فى السودان. حيث ان مفهوم المواطنة لا يقف على حدود الانتماء الدستورى لمفهوم المواطنة ولا يتوقف ايضا عند حدود القيمة الاقتصادية الاجتماعية والانتاجية للمواطن, بل هى تقف مباشرة عند حدود الانتماءات الاثنية والعرقية. حيث ان ازدواجية المعايير حول احقية البعض فى امتلاك اراضى الاخرين والعيش فى مناطقهم وتحويلهم الى مجرد عمال لا حيلة لهم , تكشف مدى الانحياز الواضح للمجموعات الاثنية المهيمنة داخل الدولة السودانية. فمن المعروف انه فى كل مناطق الهامش السودانى فان هناك احياء خاصة بالقادمين من شمال ووسط السودان, وهذه الاحياء هى دائما الاكثر رقيا والاكثر رفاها, كما ان القادمين من الوسط والشمال الذين تم تمليكهم المشاريع الزراعية فى جبال النوبة او النيل الازرق مثلا, لم يتم ابدا تصنيفهم من قبل الدولة او اهل المنطقة على انهم غرباء على المنطقة. بل على العكس فانه يتم اعطائهم الاراضى الزراعية على حساب السكان وملاك الارض الاصليين, كما حدث فى (مشروع هبيلا )الذى تم تمليك معظم المشاريع فيه لملاك من الوسط والشمال وليس لسكان هبيلا. ولكن عندما ياتى سكان الغرب والجنوب الى الوسط يتم قذفهم بانهم اغراب على المنطقة ولا يحق لهم كاى مواطنين سودانيين فى داخل وطنهم تملك الاراضى والعيش فى وسط الاحياء السكنية ذات الخدمات .
لذلك فان قضية سكان الكنابى و سكان العشوائيات فى الخرطوم او قضية الارض فى جبال النوبة هى مجرد كبسولة مركزة اكثر وضوحا تبين العطب العميق فى منظومة الدولة السودانية التى لا تقوم فيها المواطنة سوى على اساس الانتماء الاثنى لكى يحصل الشخص على درجة من الامان من العنف والتشريد وحق الحياة اولا ومن ثم حق الحياة بكرامة. وبالرغم من ان مشروع الجزيرة يعانى الان من التدمير الممنهج من قبل الانقاذ وان المزراعين اصحاب الملكية يعانون , لكن لا زال الظلم الذى يقع على سكان الكنابى هو جزء من تاريخ متشعب وطويل من العقلية التمييزية والعنصرية التى يبدو انها تجد مبررات نفسية لدى البعض ولو بشكل صامت لعمليات الحرق والتدمير والتعامل اللانسانى مع سكان الكنابى . وبالنتيجة فان هذا الوضع فى الكنابى استمر لعقود من الزمن دون ايجاد حلول حقيقية وملموسة وذلك لعدم وجود ارادة حقيقية لمواجهة جذور الازمة التى لايمكن التعامل معها فى اطارها السطحى فقط فى كونها مجرد نزاع على الارض او مجرد عمليات عنف مؤسفة نتيجة خلافات بين مجموعات سكانية متباينة. ان هذا الاسلوب فى التعامل مع ازمات السودان سطحيا وعدم التنقيب عميقا فى الخلفيات هو الذى يؤدى الى تحولها الى كوارث حقيقية .
ان ما جرى لسكان الكنابى ووصفهم بانهم ليسوا مواطنين سودانيين من قبل بعض السكان فى الجزيرة , وايضا من قبل بعض من كتب فى الموضوع حتى ممن يوصفون بانهم ناشطون ومن قبل بعض السياسيين والنخب من المركز, هذا الوصف انما يؤكد على مدى تجذر عقلية التمييز المستندة على ارث ممارسة الرقيق على المستوى الثقافى والسياسيى حتى يومنا الراهن. فلقد تحولت علاقات الرق القديمة الى علاقات انتاج غير منصفة فى داخل الذهنية المركزية التى تسيطر على السلطة والثروة وتهيمن على الحراك السياسى والثقافى فى السودان. حيث ان مفهوم المواطنة لا يقف على حدود الانتماء الدستورى لمفهوم المواطنة ولا يتوقف ايضا عند حدود القيمة الاقتصادية الاجتماعية والانتاجية للمواطن, بل هى تقف مباشرة عند حدود الانتماءات الاثنية والعرقية. حيث ان ازدواجية المعايير حول احقية البعض فى امتلاك اراضى الاخرين والعيش فى مناطقهم وتحويلهم الى مجرد عمال لا حيلة لهم , تكشف مدى الانحياز الواضح للمجموعات الاثنية المهيمنة داخل الدولة السودانية. فمن المعروف انه فى كل مناطق الهامش السودانى فان هناك احياء خاصة بالقادمين من شمال ووسط السودان, وهذه الاحياء هى دائما الاكثر رقيا والاكثر رفاها, كما ان القادمين من الوسط والشمال الذين تم تمليكهم المشاريع الزراعية فى جبال النوبة او النيل الازرق مثلا, لم يتم ابدا تصنيفهم من قبل الدولة او اهل المنطقة على انهم غرباء على المنطقة. بل على العكس فانه يتم اعطائهم الاراضى الزراعية على حساب السكان وملاك الارض الاصليين, كما حدث فى (مشروع هبيلا )الذى تم تمليك معظم المشاريع فيه لملاك من الوسط والشمال وليس لسكان هبيلا. ولكن عندما ياتى سكان الغرب والجنوب الى الوسط يتم قذفهم بانهم اغراب على المنطقة ولا يحق لهم كاى مواطنين سودانيين فى داخل وطنهم تملك الاراضى والعيش فى وسط الاحياء السكنية ذات الخدمات .
لذلك فان قضية سكان الكنابى و سكان العشوائيات فى الخرطوم او قضية الارض فى جبال النوبة هى مجرد كبسولة مركزة اكثر وضوحا تبين العطب العميق فى منظومة الدولة السودانية التى لا تقوم فيها المواطنة سوى على اساس الانتماء الاثنى لكى يحصل الشخص على درجة من الامان من العنف والتشريد وحق الحياة اولا ومن ثم حق الحياة بكرامة. وبالرغم من ان مشروع الجزيرة يعانى الان من التدمير الممنهج من قبل الانقاذ وان المزراعين اصحاب الملكية يعانون , لكن لا زال الظلم الذى يقع على سكان الكنابى هو جزء من تاريخ متشعب وطويل من العقلية التمييزية والعنصرية التى يبدو انها تجد مبررات نفسية لدى البعض ولو بشكل صامت لعمليات الحرق والتدمير والتعامل اللانسانى مع سكان الكنابى . وبالنتيجة فان هذا الوضع فى الكنابى استمر لعقود من الزمن دون ايجاد حلول حقيقية وملموسة وذلك لعدم وجود ارادة حقيقية لمواجهة جذور الازمة التى لايمكن التعامل معها فى اطارها السطحى فقط فى كونها مجرد نزاع على الارض او مجرد عمليات عنف مؤسفة نتيجة خلافات بين مجموعات سكانية متباينة. ان هذا الاسلوب فى التعامل مع ازمات السودان سطحيا وعدم التنقيب عميقا فى الخلفيات هو الذى يؤدى الى تحولها الى كوارث حقيقية .
ان تحليل واقع
الكنابى كازمة لمجموعة من السودانيين من اصول افريقية لا يمكن ابدا فصله عن ازمة
المواطنة المتجذرة فى عمق الصراع السياسى الاقتصادى والاجتماعى والاثنى فى الدولة
السودانية والذى اوصل البلاد الى الانفصال من جهة وادى الى ان يكون السودان ارض
الابادة الجماعية الاولى فى القرن الواحد وعشرين. وهذه الابادة نفسها ليست فقط
نتيجة لنظام البشير مجرم الحرب ولكنها نتيجة للصمت والتقاعس والذى ادى لحدوث
الابادة والذى استمر بعدها فى عدم تقديم مرتكبيها للعدالة حتى الان. ان هذا الواقع
السياسى السودانى يضع مسالة المواطنة وحقوقها المنحصرة فى مجموعات معينة هى السبب
الرئيسيى فى هذه الازمات . حيث ان المواطنين السودانيين من الاثنيات الافريقية هم
مجرد مواطنين مؤقتين لهم حقوق بقدر احتياج الدولة والمنظومة الاقتصادية الاجتماعية
المركزية لهذا الدور. ولذلك لا يتم تقديم اى خدمات تؤكد على مواطنتهم او تدعم
وجودهم كمواطنين لهم حقوق “ متساوية “ مع بقية المواطنين من الدرجة الاولى الذين
لا يمسهم مثل هذا التنكيل والصمت على التنكيل والارتباك المخزى فى مشهد المناصرة.
ان الدور الاقتصادى الذى قام به ولازال يقوم به العمال الزراعيين فى كل انحاء
السودان يعطيهم كامل حقوق المواطنة ناهيك عن الانتماء الاصيل للسودان ارضا وثقافة
. لكن المشهد الراهن سيؤدى الى انفجارات بسبب الاحتقان الذى يسببه عدم البحث عميقا
فى جذور الازمات ومواجهتها.
من جانب اخر فان الوضع فى عشوائيات الخرطوم واحيائها الفقيرة ينذر بانفجارات اخرى لن تكون محمودة العواقب بلا ادنى شك. فان حالة انعدام الامان التى تعشيها الخرطوم الان وحوداث النهب والعصابات من راكبى الدراجات النارية وغيرها من الازمات الامنية ليست سوى راس جبل الجليد الناتج عن عمليات الافقار والتمييز والتشريد المستمر لمجموعات سكانية كاملة طوال عقود. ان المجموعات المهيمنة التى تحكم السودان من الحرى بها ان تستيقظ من غفلتها التى طالت, فاذا كانت عمليات التمييز ونزع اراضى اهالى جبال النوبة والنيل الازرق ودارفور قد ادت الى ان يحمل البعض السلاح فى مناطقهم, فان التمييز الذى يجرى داخل الخرطوم سيؤدى الى تكوين تشكيلات من التمرد والرفض بدون اى قيادة معروفة او حركات سياسية لها وجهة نظر او مطالب. لان هؤلاء سيحركهم فقط الغضب من التمييز والفوارق الطبقية والتى يضاف اليها التمييز الاثنى الذى يتعرضون له وهم يعيشون فى اطراف الخرطوم بلا اى خدمات ولا موارد ولا فرص للترقى الاجتماعى. امامهم الافق مغلق تماما. ولذلك فان اى مراجعة حقيقية لانقاذ السودان من الفوضى العارمة القادة بلا شك , يجب ان تبدا بانهاء هذه الحالة من انكار حقيقة احتكار السلطة والثروة والتمييز الاثنى والطبقى واستبعاد وافقار معظم الاثنيات الاخرى لصالح ثراء وقيادة اثنية معينة. ان التحرك الى الامام لن يتم دون التخلص من اعباء الماضى وتحقيق العدالة الاجتماعية هو مفتاح رئيسى, و لن يتم دون تحطيم عوازل التمييز الاثنى واعادة توزيع الثروة فى السودان واول بند يجب النظر اليه هو مسالة ملكية الارض. حيث انها كما استعرضنا فى هذه الورقة تشكل عاملا حاسما للغاية فى تحقيق المواطنة المستقرة الكاملة .
من جانب اخر فان الوضع فى عشوائيات الخرطوم واحيائها الفقيرة ينذر بانفجارات اخرى لن تكون محمودة العواقب بلا ادنى شك. فان حالة انعدام الامان التى تعشيها الخرطوم الان وحوداث النهب والعصابات من راكبى الدراجات النارية وغيرها من الازمات الامنية ليست سوى راس جبل الجليد الناتج عن عمليات الافقار والتمييز والتشريد المستمر لمجموعات سكانية كاملة طوال عقود. ان المجموعات المهيمنة التى تحكم السودان من الحرى بها ان تستيقظ من غفلتها التى طالت, فاذا كانت عمليات التمييز ونزع اراضى اهالى جبال النوبة والنيل الازرق ودارفور قد ادت الى ان يحمل البعض السلاح فى مناطقهم, فان التمييز الذى يجرى داخل الخرطوم سيؤدى الى تكوين تشكيلات من التمرد والرفض بدون اى قيادة معروفة او حركات سياسية لها وجهة نظر او مطالب. لان هؤلاء سيحركهم فقط الغضب من التمييز والفوارق الطبقية والتى يضاف اليها التمييز الاثنى الذى يتعرضون له وهم يعيشون فى اطراف الخرطوم بلا اى خدمات ولا موارد ولا فرص للترقى الاجتماعى. امامهم الافق مغلق تماما. ولذلك فان اى مراجعة حقيقية لانقاذ السودان من الفوضى العارمة القادة بلا شك , يجب ان تبدا بانهاء هذه الحالة من انكار حقيقة احتكار السلطة والثروة والتمييز الاثنى والطبقى واستبعاد وافقار معظم الاثنيات الاخرى لصالح ثراء وقيادة اثنية معينة. ان التحرك الى الامام لن يتم دون التخلص من اعباء الماضى وتحقيق العدالة الاجتماعية هو مفتاح رئيسى, و لن يتم دون تحطيم عوازل التمييز الاثنى واعادة توزيع الثروة فى السودان واول بند يجب النظر اليه هو مسالة ملكية الارض. حيث انها كما استعرضنا فى هذه الورقة تشكل عاملا حاسما للغاية فى تحقيق المواطنة المستقرة الكاملة .
الازمة وافاق
الحلول
ان ازمة ملكية الارض فى السودان توضح ان اليات القمع والاستغلال والاضطهاد التى تستخدمها النخبة الحاكمة المسيطرة على البلاد منذ الاستقلال , والتى ورثتها منذ عهد الاستعمار , ان هذه الاليات يجب ان تتغير نسبة للكوارث الكبيرة التى انتجتها. فقد كانت ولا تزال القوانين التى تنظم ملكية ونقل ملكية الارض فى السودان هى مسبب رئيس للنزاعات لانها مسبب رئيسي لامتلاك الثروة , كما ان عملية تقسيم ملكيات الارض وحقوق استغلالها سواء لاغراض الزراعة فى الماضى او لاغراض التنقيب عن الذهب فى الوقت الراهن, فى كلا الحالتين فان عمليات التوزيع لملكية الارض هى عمليات مرتبطة بتثبيت السلطات والحكومات لنفسها وتوطيد قواعد التاييد لها وسط الفئات الاجتماعية المهيمنة والتى تمثل اثنيات معينة هى التى تتحكم فى الدولة السودانية تاريخيا. وبالمقابل فان ذات اداة ملكية الارض التى تتم من خلالها عمليات توسيع الثروات وتثبيت السلطات , نفس الالية تستخدم فى الاتجاه المعاكس لكى يتم اقتلاع مجموعات سكانية كاملة من اراضيها كما يحدث وحدث منذ بداية الاستقلال فى جبال النوبة وفى النيل الازرق ودارفور وغيرها. هذا اضافة الى ان تمليك الارض لمجموعات معينة يتم دوما على حساب نزعها من المجموعات المهمشة سواء كان ذلك فى الاطراف او داخل المركز. حيث ان الاحياء الراقية لكى تقوم يجب دوما ترحيل المساكن العشوائية والاحياء الفقيرة الى اطراف العاصمة. فى حين انه فى مجال الزراعة يتم باستمرار تمليك المشاريع الكبرى للمجموعات المهميمنة ويتم تحويل السكان الاصليين الى عمال فى ارضهم. اما فى حالة الكنابى فان الوضع يتمظهر فيه تعقيدات متنوعة لكنها تحمل ذات جراثيم التمييز على الاساس الاثنى واستخدام ملكية الارض كوسيلة استغلال واضطهاد وتمييز عنصرى وعنف ممنهج مدعوم من الدولة.
ان ازمة الوجود والمواطنة فى داخل الوسط والمركز للسودانيين من الهامش ومن اصول افريقية , هى تجلى حقيقي على ان الدولة المركزية تنظر الى هؤلاء المواطنين عند وجودهم فى الوسط كمواطنين مؤقتين ليس لهم مكان فى وسط ومركز السودان بما فى ذلك الخرطوم, فى المقابل فان اهل المركز لهم حقوق الملكية والاستقرار والمواطنة الكاملة فى اراضى الاقاليم المهمشة فى السودان. ان السودانيين من الغرب والجنوب والهامش يعيشون حالة مستمرة من انعدام الاستقرار لانهم يتعرضون لعنف ممنهج فى داخل المركز, من تهديم وترحيل مستمر يجعل مواطنتهم واستقرارهم ووجودهم فى الوسط هو دوما وجود مؤقت قابل للازالة والحرق فى اى وقت. من الكنابى الى العزب الى المناطق العشوائية فى الحزام الاسود فى الخرطوم , فان مشهد المواطنة هناك يبدو دوما مؤقتا, فحتى اسامى المناطق تنم عن ذلك من زقلونا الى طردونا الى بارونا جميعها اسماء تصف قصة الرحيل المؤلم المستمر نحو الاطراف والحافة.
ان افاق الحلول لازمة ملكية الارض لا تنفصل ابدا عن حلول مسالة المواطنة الغير المتساوية فى السودان , ولذلك الحل يبدا بالمواجهة وعدم دفن الرؤوس فى الرمال ووضع الاشياء فى موازينها الحقيقية وعدم التنازل عن حق التعبير الواضح والعودة الى التاريخ وربطه بالحاضر حتى تكتمل الصورة. حيث ان تحليل جذور الازمة يجب ان يؤدى الى تفهم كامل للمشهد يضع ميزان عادل يعرف الضحية ويوضح حقوقها ويعرف الجناة ويضع لهم منصات العدالة القانونية للمحاسبة. كما ان ازمة المواطنة المؤقتة على مستوى الدولة السودانية وارتباطها بالدولة المركزية العنصرية يجب ان يتم التعامل معها كاحدى اهم محركات وشروط التغيير الهيكلى الجذرى للدولة السودانية. يقول الدكتور عمر مصطفى شركيان: “ يصعب على اصحاب السلطة فى السودان بما عرفناهم به من خصال وسمات ان يصلوا الى الحلول المستديمة, ولذلك فشلت مشاريع التشخيص السابقة .. لان نفوسهم صغيرة تتواطأ مع عجزهم ويتواطأ عجزهم الذاتى مع وعى يرتاح الى الوهم والخديعة.” ومن اهم المسائل التى لازالت النخب المستنيرة تتعامل معها بمفهوم وعى الوهم والخديعة هو تاريخ الرق فى السودان ,حيث ان الاعتراف بتاريخ الرق هو جزء رئيسى من مكافحة امراض العنصرية فى الدولة والمجتمع . كما ان اى قوانين يمكن سنها او اى حلول جزئية لا تحمل معها عمل اجتماعى فكرى مرتبط بشروط حقوق الانسان الاساسية وقيم العدالة والشراكة فى الوطن يتم تنزيله على مستوى المجتمعات المحلية وتغيير المفاهيم سوف يكون فقط شكل من الحرث فى البحر. لذلك فان قضية الكنابى مثلا والوضع فى الاحياء الطرفية للخرطوم على سبيل المثال يجب ان تكون جرس انذاز حقيقي يؤشر لمستوى التوتر الذى اصاب المجتمعات السودانية وقدرة النظام على اشعال مزيد من الازمات يعتمد على درجة وعى قوى التغيير فى العمل الجاد لتغيير المفاهيم داخل المجتعمات المحلية . فالتغيير لا يبدا باسقاط النظام بل يبدا بالقناعة بان هناك دولة سودانية قائمة على اسس فاسدة ذات طابع عنصرى وتمييزى يجب ازالتها وبناء دولة المواطنة الكاملة والمتساوية لكل السودانيين. والا فان برميل البارود الذى يجلس عليه كل السوادينيون سوف ينفجر فى الجميع هذه المرة ولن ينفجر فى مناطق الهامش فقط بل سينفجر من الهامش الموجود داخل الخرطوم اولا. وهذه الورقة هى صرخة ونداء للبحث عميقا فى جذور ازمات السودان وان يتعلم المؤمنون بالتغيير النظر الى تعقيدات الواقع بجدية كافية وتفهم ان الازمات بدات منذ لحظة الاستقلال المشوه, الذى كان قادته لا يحملون اى نوايا او خطط حقيقية لتحسين حالة السودانين بقدر ما انهم كانوا يحافظون على البنى الطائفية والقبلية المتخلفة التى تضمن لهم البقاء فى السلطة وتعينهم على مراكمة السلطة والثروة على حساب الاخرين. ان الضرورة العاجلة الان هى لان يكون هناك عمل جاد ليس فقط لتغيير القوانين المتعلقة بملكية الارض ولكن للاعتراف بحقوق المجموعات المضطهدة والمستغلة تاريخيا , فحتى ان لم يتغير القانون او النظام غدا , فان اعتراف النخب بحقيقتها ومحاولتها تغيير مفاهيمها حول كيفية رد الحقوق هى خطوة سوف تضع الارضية لمفهوم العدالة الذى هو القيمة الرئيسية لقيام وتطور اى دولة او حضارة. وهدف هذه الورقة لا يمكن ان يتلخص بعبارة افضل من نداء عبد الله على ابراهيم لنخب المركز المستنيرة فى السبعينات حين نشر كتابه اللغة العربية والماركسية فى السودان اذ قال شارحا غرضه من كتابه بالقول: "هذا الكتاب النواة الأولى للجنس الكتابي الذي يعرف حاليا فتح الأرشيف السري للثقافة العربية الشمالية المسلمة (الجلابة)" والذي أكثره شفاهي ويسعى للتأجيج والسياسة وقد "حمى الكاتب من هذه السقطة الخلقية منهج ونية" في "حوار جدي مع مزاج ود العرب .. ليحرر نفسه بإخذائه وإحراجه وإخجاله أمام نفسه بينما يتجه أدب كشف المستور الحالي إلى تحريره بإخذائه وإحراجه وإخجاله أمام العالم ، وشتان بين المنهجين" .. "منهج كتابي هو "الثقة في ود العرب في تحرير نفسه بنفسه لأن له من الأصول الثقافية والإنسانية الدقيقة ما يلهمه طريقا سويا إلى وطن سوي". ولنا ايضا الامل فى قدرة النخب المركزية على تحرير نفسها وتحرير الوطن معها من قيود التمييز والاستغلال والاضطهاد التى اتضح جليا بعد 60 عاما من الاستغلال واحتكار السلطة من قبل مجموعات معينة وقلة قليلة, ان هذه القيود لا تكبل الهامش فقط بل السودان ككل, ولذلك فان تحريرهم لعقولهم وضمائرهم هو البداية الحقيقية لتحرير الوطن من كل ازماته, حيث ان الحل ليس فى القوانين ولا الدساتير ولا الاتفاقيات والتحالفات, الحل فى الارادة السياسية الواعية والمتسقة مع حقائق الواقع والتاريخ بشجاعة لا يشوبها تردد فى ارجاع الحقوق لاصحابها وتثبيت موازين العدالة المختلة فى السودان منذ قيام الدولة الحديثة.
يوليو 2018
عثمان نواى
ان ازمة ملكية الارض فى السودان توضح ان اليات القمع والاستغلال والاضطهاد التى تستخدمها النخبة الحاكمة المسيطرة على البلاد منذ الاستقلال , والتى ورثتها منذ عهد الاستعمار , ان هذه الاليات يجب ان تتغير نسبة للكوارث الكبيرة التى انتجتها. فقد كانت ولا تزال القوانين التى تنظم ملكية ونقل ملكية الارض فى السودان هى مسبب رئيس للنزاعات لانها مسبب رئيسي لامتلاك الثروة , كما ان عملية تقسيم ملكيات الارض وحقوق استغلالها سواء لاغراض الزراعة فى الماضى او لاغراض التنقيب عن الذهب فى الوقت الراهن, فى كلا الحالتين فان عمليات التوزيع لملكية الارض هى عمليات مرتبطة بتثبيت السلطات والحكومات لنفسها وتوطيد قواعد التاييد لها وسط الفئات الاجتماعية المهيمنة والتى تمثل اثنيات معينة هى التى تتحكم فى الدولة السودانية تاريخيا. وبالمقابل فان ذات اداة ملكية الارض التى تتم من خلالها عمليات توسيع الثروات وتثبيت السلطات , نفس الالية تستخدم فى الاتجاه المعاكس لكى يتم اقتلاع مجموعات سكانية كاملة من اراضيها كما يحدث وحدث منذ بداية الاستقلال فى جبال النوبة وفى النيل الازرق ودارفور وغيرها. هذا اضافة الى ان تمليك الارض لمجموعات معينة يتم دوما على حساب نزعها من المجموعات المهمشة سواء كان ذلك فى الاطراف او داخل المركز. حيث ان الاحياء الراقية لكى تقوم يجب دوما ترحيل المساكن العشوائية والاحياء الفقيرة الى اطراف العاصمة. فى حين انه فى مجال الزراعة يتم باستمرار تمليك المشاريع الكبرى للمجموعات المهميمنة ويتم تحويل السكان الاصليين الى عمال فى ارضهم. اما فى حالة الكنابى فان الوضع يتمظهر فيه تعقيدات متنوعة لكنها تحمل ذات جراثيم التمييز على الاساس الاثنى واستخدام ملكية الارض كوسيلة استغلال واضطهاد وتمييز عنصرى وعنف ممنهج مدعوم من الدولة.
ان ازمة الوجود والمواطنة فى داخل الوسط والمركز للسودانيين من الهامش ومن اصول افريقية , هى تجلى حقيقي على ان الدولة المركزية تنظر الى هؤلاء المواطنين عند وجودهم فى الوسط كمواطنين مؤقتين ليس لهم مكان فى وسط ومركز السودان بما فى ذلك الخرطوم, فى المقابل فان اهل المركز لهم حقوق الملكية والاستقرار والمواطنة الكاملة فى اراضى الاقاليم المهمشة فى السودان. ان السودانيين من الغرب والجنوب والهامش يعيشون حالة مستمرة من انعدام الاستقرار لانهم يتعرضون لعنف ممنهج فى داخل المركز, من تهديم وترحيل مستمر يجعل مواطنتهم واستقرارهم ووجودهم فى الوسط هو دوما وجود مؤقت قابل للازالة والحرق فى اى وقت. من الكنابى الى العزب الى المناطق العشوائية فى الحزام الاسود فى الخرطوم , فان مشهد المواطنة هناك يبدو دوما مؤقتا, فحتى اسامى المناطق تنم عن ذلك من زقلونا الى طردونا الى بارونا جميعها اسماء تصف قصة الرحيل المؤلم المستمر نحو الاطراف والحافة.
ان افاق الحلول لازمة ملكية الارض لا تنفصل ابدا عن حلول مسالة المواطنة الغير المتساوية فى السودان , ولذلك الحل يبدا بالمواجهة وعدم دفن الرؤوس فى الرمال ووضع الاشياء فى موازينها الحقيقية وعدم التنازل عن حق التعبير الواضح والعودة الى التاريخ وربطه بالحاضر حتى تكتمل الصورة. حيث ان تحليل جذور الازمة يجب ان يؤدى الى تفهم كامل للمشهد يضع ميزان عادل يعرف الضحية ويوضح حقوقها ويعرف الجناة ويضع لهم منصات العدالة القانونية للمحاسبة. كما ان ازمة المواطنة المؤقتة على مستوى الدولة السودانية وارتباطها بالدولة المركزية العنصرية يجب ان يتم التعامل معها كاحدى اهم محركات وشروط التغيير الهيكلى الجذرى للدولة السودانية. يقول الدكتور عمر مصطفى شركيان: “ يصعب على اصحاب السلطة فى السودان بما عرفناهم به من خصال وسمات ان يصلوا الى الحلول المستديمة, ولذلك فشلت مشاريع التشخيص السابقة .. لان نفوسهم صغيرة تتواطأ مع عجزهم ويتواطأ عجزهم الذاتى مع وعى يرتاح الى الوهم والخديعة.” ومن اهم المسائل التى لازالت النخب المستنيرة تتعامل معها بمفهوم وعى الوهم والخديعة هو تاريخ الرق فى السودان ,حيث ان الاعتراف بتاريخ الرق هو جزء رئيسى من مكافحة امراض العنصرية فى الدولة والمجتمع . كما ان اى قوانين يمكن سنها او اى حلول جزئية لا تحمل معها عمل اجتماعى فكرى مرتبط بشروط حقوق الانسان الاساسية وقيم العدالة والشراكة فى الوطن يتم تنزيله على مستوى المجتمعات المحلية وتغيير المفاهيم سوف يكون فقط شكل من الحرث فى البحر. لذلك فان قضية الكنابى مثلا والوضع فى الاحياء الطرفية للخرطوم على سبيل المثال يجب ان تكون جرس انذاز حقيقي يؤشر لمستوى التوتر الذى اصاب المجتمعات السودانية وقدرة النظام على اشعال مزيد من الازمات يعتمد على درجة وعى قوى التغيير فى العمل الجاد لتغيير المفاهيم داخل المجتعمات المحلية . فالتغيير لا يبدا باسقاط النظام بل يبدا بالقناعة بان هناك دولة سودانية قائمة على اسس فاسدة ذات طابع عنصرى وتمييزى يجب ازالتها وبناء دولة المواطنة الكاملة والمتساوية لكل السودانيين. والا فان برميل البارود الذى يجلس عليه كل السوادينيون سوف ينفجر فى الجميع هذه المرة ولن ينفجر فى مناطق الهامش فقط بل سينفجر من الهامش الموجود داخل الخرطوم اولا. وهذه الورقة هى صرخة ونداء للبحث عميقا فى جذور ازمات السودان وان يتعلم المؤمنون بالتغيير النظر الى تعقيدات الواقع بجدية كافية وتفهم ان الازمات بدات منذ لحظة الاستقلال المشوه, الذى كان قادته لا يحملون اى نوايا او خطط حقيقية لتحسين حالة السودانين بقدر ما انهم كانوا يحافظون على البنى الطائفية والقبلية المتخلفة التى تضمن لهم البقاء فى السلطة وتعينهم على مراكمة السلطة والثروة على حساب الاخرين. ان الضرورة العاجلة الان هى لان يكون هناك عمل جاد ليس فقط لتغيير القوانين المتعلقة بملكية الارض ولكن للاعتراف بحقوق المجموعات المضطهدة والمستغلة تاريخيا , فحتى ان لم يتغير القانون او النظام غدا , فان اعتراف النخب بحقيقتها ومحاولتها تغيير مفاهيمها حول كيفية رد الحقوق هى خطوة سوف تضع الارضية لمفهوم العدالة الذى هو القيمة الرئيسية لقيام وتطور اى دولة او حضارة. وهدف هذه الورقة لا يمكن ان يتلخص بعبارة افضل من نداء عبد الله على ابراهيم لنخب المركز المستنيرة فى السبعينات حين نشر كتابه اللغة العربية والماركسية فى السودان اذ قال شارحا غرضه من كتابه بالقول: "هذا الكتاب النواة الأولى للجنس الكتابي الذي يعرف حاليا فتح الأرشيف السري للثقافة العربية الشمالية المسلمة (الجلابة)" والذي أكثره شفاهي ويسعى للتأجيج والسياسة وقد "حمى الكاتب من هذه السقطة الخلقية منهج ونية" في "حوار جدي مع مزاج ود العرب .. ليحرر نفسه بإخذائه وإحراجه وإخجاله أمام نفسه بينما يتجه أدب كشف المستور الحالي إلى تحريره بإخذائه وإحراجه وإخجاله أمام العالم ، وشتان بين المنهجين" .. "منهج كتابي هو "الثقة في ود العرب في تحرير نفسه بنفسه لأن له من الأصول الثقافية والإنسانية الدقيقة ما يلهمه طريقا سويا إلى وطن سوي". ولنا ايضا الامل فى قدرة النخب المركزية على تحرير نفسها وتحرير الوطن معها من قيود التمييز والاستغلال والاضطهاد التى اتضح جليا بعد 60 عاما من الاستغلال واحتكار السلطة من قبل مجموعات معينة وقلة قليلة, ان هذه القيود لا تكبل الهامش فقط بل السودان ككل, ولذلك فان تحريرهم لعقولهم وضمائرهم هو البداية الحقيقية لتحرير الوطن من كل ازماته, حيث ان الحل ليس فى القوانين ولا الدساتير ولا الاتفاقيات والتحالفات, الحل فى الارادة السياسية الواعية والمتسقة مع حقائق الواقع والتاريخ بشجاعة لا يشوبها تردد فى ارجاع الحقوق لاصحابها وتثبيت موازين العدالة المختلة فى السودان منذ قيام الدولة الحديثة.
يوليو 2018
عثمان نواى
مراجع انجليزية
- African Rights,(1995). Sudan’s invisible citizens: The policy of abuse against displaced people in the north.London. African Rights
- Burtz,Christina , (2011) The second class citizens of Sudan, University of Berlin.
- Barnel, Victoria,(n.d). Colonial moral economy and the discipline of development: The Gezira scheme and modern Sudan. University of California
- Eltayeb, Galal Eldein, (2003) Urban Slums Report: the case of Khartoum, Sudan, MIT, Boston, USA
- Elamin, Khalid, (2016). The state , land and conflicts in Sudan. International journal of peace and conflicts studies, Vol.3, June,2016
- Komey, Guma Kunda.(2010). Land, governance, conflict and the Nuba of Sudan. James Currey . London
- Mcloughlin, Peter F. M. "Economic Development and the Heritage of Slavery in the Sudan Republic." Journal of the international African Institute, 1962: 355-391.
Tothill, J.D. (1948). Handbook of Agriculture as practiced in Sudan. Oxford University
- African Rights,(1995). Sudan’s invisible citizens: The policy of abuse against displaced people in the north.London. African Rights
- Burtz,Christina , (2011) The second class citizens of Sudan, University of Berlin.
- Barnel, Victoria,(n.d). Colonial moral economy and the discipline of development: The Gezira scheme and modern Sudan. University of California
- Eltayeb, Galal Eldein, (2003) Urban Slums Report: the case of Khartoum, Sudan, MIT, Boston, USA
- Elamin, Khalid, (2016). The state , land and conflicts in Sudan. International journal of peace and conflicts studies, Vol.3, June,2016
- Komey, Guma Kunda.(2010). Land, governance, conflict and the Nuba of Sudan. James Currey . London
- Mcloughlin, Peter F. M. "Economic Development and the Heritage of Slavery in the Sudan Republic." Journal of the international African Institute, 1962: 355-391.
Tothill, J.D. (1948). Handbook of Agriculture as practiced in Sudan. Oxford University
مراجع بالعربية
- قندول ابراهيم قندول , (2015) مدخل لدراسة قبيلة روفيك (دميك) : الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية - جبال النوبة - السودان . ام بى جى . لندن
- عمر مصطفى شركيان, (2010) السودان : انتفاض سكان المناطق المقفولة. الشارقة
- عمر مصطفى شركيان, (2006) النوبة فى السودان: نضال شعب فى سبيل العدالة والمشاركة فى السلطة. دار الحكمة . لندن
- عطا البطحانى, جبال النوبة : الاثنية والحركة الفلاحية, 1924-1969, دار عزة, الخرطوم, 2008
- تيسير محمد على, ظراعة الجوع فى السودان, مركز الدراسات السودانية , القاهرة 1994.
- يوشيكو كوريتا. على عبد اللطيف وثورة 1924: بحث فى مصادر الثورة السودانية. القاهرة: مركز الدراسات السودانية، 1997.
- محمد على مهلة. العمال الزراعيون سكان الكنابى بالمشاريع الزراعية المروية بالسودان: الاشكالات وافاق الحلول, ابريل 2018.منشور الكترونيا على صفحته فى الفيسبوك
- مبارك اردول. (2018) قراءة لتشكيلات الصراع فى السودان على ضوء نظرية التبعية والاجابة على مسالة جبال النوبة. الراكوبة الالكترونية, يونيو ,2018.
- عثمان نواى. السودان من العنصرية الى التطهير الاثنى. دار النخبة - القاهرة - 2017
- قندول ابراهيم قندول , (2015) مدخل لدراسة قبيلة روفيك (دميك) : الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية - جبال النوبة - السودان . ام بى جى . لندن
- عمر مصطفى شركيان, (2010) السودان : انتفاض سكان المناطق المقفولة. الشارقة
- عمر مصطفى شركيان, (2006) النوبة فى السودان: نضال شعب فى سبيل العدالة والمشاركة فى السلطة. دار الحكمة . لندن
- عطا البطحانى, جبال النوبة : الاثنية والحركة الفلاحية, 1924-1969, دار عزة, الخرطوم, 2008
- تيسير محمد على, ظراعة الجوع فى السودان, مركز الدراسات السودانية , القاهرة 1994.
- يوشيكو كوريتا. على عبد اللطيف وثورة 1924: بحث فى مصادر الثورة السودانية. القاهرة: مركز الدراسات السودانية، 1997.
- محمد على مهلة. العمال الزراعيون سكان الكنابى بالمشاريع الزراعية المروية بالسودان: الاشكالات وافاق الحلول, ابريل 2018.منشور الكترونيا على صفحته فى الفيسبوك
- مبارك اردول. (2018) قراءة لتشكيلات الصراع فى السودان على ضوء نظرية التبعية والاجابة على مسالة جبال النوبة. الراكوبة الالكترونية, يونيو ,2018.
- عثمان نواى. السودان من العنصرية الى التطهير الاثنى. دار النخبة - القاهرة - 2017
0 comments:
إرسال تعليق