الجزء الثالث
بقلم عثمان نواى
ازمة سكان الهامش داخل الوسط والمركز : مساكن الكرتون و العشوائيات
ولكنابي
ان العنف الذى يمارس ضد سكان الكنابى وسكان العشوائيات فى كل
السودان , والذين يشكلون القوة العاملة الرئيسية التى تقوم بمعظم الاعمال اليدوية
والثقيلة فى كل السودان, هذا العنف هو جزء من عملية تمييز اثنى عنصرى ممنهجة من
قبل الدولة التى تسيطر عليها المجموعات الاثنية من المركز منذ بداية الدولة
السودانية. حيث ان حقوق المواطنة المرتبطة بحرية التنقل, والتملك والعمل , يتم
حصرها للفئات من السودانيين من غرب وجنوب السودان فى اطر محددة يجب ان لا تتجاوز
تقديم الخدمات والقيام بالاعمال الشاقة التى لا يريد ولا يرغب فى القيام بها اصحاب
ذهنية امتلاك الرقيق المتوارثة الى الان. حيث ان عمليات الترحيل القسرى والاجبارى وتفكيك
التجمعات السكانية المستقرة لهولاء القادمين من اطراف السودان المهمشة الى الوسط
النيلى تتم بشكل مستمر وعبر استخدام العنف المفرط من السلطات فى عهد كل الحكومات.
فليس ما حدث فى الكنابى فى الجزيرة من حرق للقرى واتلاف للمحاصيل والممتلكات, سوى
مواصلة لارث “ الضغينة ومنع التملك لهؤلاء القادمين من غرب السودان, والذى وثق له
ماكلوجين منذ منتصف القرن الماضى.
“
الخرطوم المدينة الدولة
لقد توسعت الخرطوم منذ عام 1955وحتي عام 1998 بما يساوى 48 ضعف.
ومعظم هدا التوسع حدث خلال الفترة من الثمانينات الي الان. حيث تركزت معظم الموارد
والخدمات في المركز الخرطوم مما دفع السكان من أطراف السودان المختلفة إلى الهجرة
إليها، حيث أن هذا التركيز التنموي ادي الي أن يكون هناك 85 في المائة من المؤسسات
التجارية و80% من البنوك، و71 %من القروض العقارية، و 73 %من المنشآت الصناعية و
73 %من العمالة الصناعية، و 70 % من المستشفيات، 65% من مجموع الأطباء، و 80 % من
الممرضات موجودة فى الخرطوم. هذه الأرقام هي مؤشرات مفزعة للتركيز الخدمي
والاقتصادي والتنموي في المركز وكأن الدولة هي في الخرطوم فقط. وفي الخرطوم نفسها
تمت عمليات ممنهجة أيضا بتركيز الخدمات في وسط هذه المدينة الدولة. في الخارطتين
ادناه يتضح توسع المدينة خلال الفترة من 1855 الي 1985 والأحياء التي نشأت كما
يتضح في الخريطة 1. أما الخريطة 2 فهي توضح الدرجات السكنية في الخرطوم والأحياء
التي تتركز فيها الخدمات التى تتبع الي درجة السكن. ومدي صغر المناطق المركزية في
الخرطوم مقارنة بالاطراف التي تقل فيها الخدمات كلما اتجهنا بعيدا عن مركز الخدمات
في الأحياء السكنية من الدرجة الاولى. أيضا بإجراء مقارنة بين الخارطتين نلحظ أن
عملية إزاحة مستمرة تجرى لمناطق السكن العشوائي والاحياء الفقير لكي تبتعد عن مركز
العاصمة المليء بالخدمات والحركة التجارية والمخصص لسكان الدرجة الأولي.
ماساة العشوائيات والترحيل القسري داخل الخرطوم
في تقرير لجامعة ماسشوتس للتكنولوجيا حول العشوائيات في الخرطوم
صدر عام 2003، صنفت المساكن أو الأحياء الفقيرة او
slums في الخرطوم في شكل مرتبط بواقع العملية المتعلقة
بالتوسع الي الخارج والازاحة الدائمة للمنع من الاقتراب من المركز. حيث أن التصنيف
وصف ثلاث انواع من الأحياء الفقيرة العشوائية علي حسب قربها من مركز الخرطوم،
أولها في داخل المدينة، بعضها تم إعادة تخطيط المدينة من حوله والبعض تم ترحيل أصحابه
مثل كرتون فلاتة. هناك نوع آخر من الأحياء الفقيرة التي هي عبارة عن مساكن الخطط
السكنية التي توزعها الحكومة كتعويضات للمرحلين من الاحياء القريبة من مركز
الخرطوم أو للذين لا يمتلكون أراضي سكنية. وأخيرا فإن هناك المساكن العشوائية التي
هي متفرقة حول الخرطوم وبشكل كبير هي التي تحتوي الإعداد الأكبر من السكان. حيث
انه في الخريطة رقم 3 ادناه نري أن معظم مناطق الدرجة الثالثة تمثل مناطق الأحياء
الفقيرة القريبة من مركز الخرطوم
inner slums،
بينما المناطق المعاد تخطيطها تمثل الأحياء الفقيرة الخارجية أو outer slums ،بينما المناطق العشوائية هي في اطراف
الخرطوم.
"اول المستوطنات العشوائية ظهرت في شمال الخرطوم في بحرى في عام
1921 وهي الآن تعتبر منطقة درجة ثالثة، وكانت حول المنطقة الصناعية وقد تمت
إزالتها الان. حيث أن الحكومات الوطنية ظلت توزع قطع الأراضي كدرجة أولي وثانية
وانتشرت الي حيث كانت بعض من الأحياء الفقيرة والعشوائية سابقا مثل مناطق العمارات
والرياض والصافية والمهندسين. " حيث أن أي عملية توسع في الخرطوم كانت تقوم
علي حساب نوع الأراضي من سكان العشوائيات أو ترحيلهم الي إماكن ابعد من مراكز
المدينة التي تم توزيعها كدرجة أولي وثانية. وقد كانت عمليات النزوح المنظم
للخرطوم بدأت في السبعينات ولكنها تسارعت في منتصف الثمانينات بعد أن اشتعلت الحرب
في الجنوب. حيث يقدر انه حتي قبل الانفصال كان هناك ما لايقل عن 2مليون من الجنوب
وجبال النوبة حسب إحصائيات رسمية يعيشون في هذه العشوائيات حول الخرطوم بينما
تقديرات باحثين ومنظمات اخري تضع الأرقام الي حد يصل الي 3.5مليون. فيما بعد
الانفصال تظل التقديرات تصل الي أن السكان في العشوائيات أو مناطق الحزام الأسود
ربما لا تقل عن 1.7 الي 2 مليون نسمة. بينما لا يقل سكان المناطق سكان الدرجة الثالثة
أو outer slums حسب تقرير جامعة مايشوتس عن 1.3 مليون.
في الفترة بين 1989 وحتي 2002 وقت صدور التقرير المشار إليه أعلاه
تم إزالة أكثر من 12 مستوطنة أو حي سكني عشوائي حول الخرطوم تم إعادة توطين سكانها
في مناطق في حافة او أطراف الخرطوم الكبرى كما وصفها التقرير. بينما هناك مخطط الي
إزالة أكثر من 5 عشوائيات اخري في تاريخ صدور التقرير، حيث يقدر عدد السكان المخطط
نزع أرضهم وترحليهم من هذه العشوائيات الخمسة أكثر من ربع مليون نسمة. يصف التقرير
التركيبة السكانية للأحياء الفقرة والعشوائية في الخرطوم علي مستوي التوزيع
السكاني حسب المناطق الأصلية من السودان قائلا :" البنية القبلية للمناطق
العشوائية في الخرطوم وبقية الأحياء الفقيرة تظهر أن الغالبية هي من القبائل
الجنوبية ممثل النوير والدينكا والشلك إضافة إلي القادمين من غرب السودان من الفور
والزغاوة والمسيرية والبقارة والبرنو والنوبة. أما سكان الأحياء الفقيرة في الدرجة
الثالثة الأقرب الموجودة داخل العاصمة فهم بشكل غالب من وسط وشمال السودان."
( بورتز، 2012) ومن هنا يتضح أن توزيع السكن والأراضي في الخرطوم يتبع نفس النمط
الذي تتبعه الدولة السودانية في عملية التوزيع للثروة والسلطة علي أسس اثنية، بحيث
ان السكن حتي داخل الخرطوم هو مقسم علي أسس اثنية بشكل لا يقبل الشك. إذ تتم عملية
إزاحة مستمرة للسكان في هذه العشوائيات القادمين من مناطق الهامش والأطراف في
السودان الكبير لكي يعيشون في الهامش والأطراف داخل الخرطوم أيضا. تقول كريستينا
بوتزر كاتبة كتاب مواطنين من الدرجة الثانية في السودان عن أطراف الخرطوم والتطور
الذي يجرى دون أن يؤثر علي سكان هذه الأطراف"( بوتزر 2012) . ان الأطراف يمكن
اعتبارها مستعمرات داخلية، حيث أن التطور الصناعي له فوائد حصرية للمجموعات
السكانية في المركز الذين يسعون الي استقرار النظام
system لكي يحافظوا على امتيازاتهم." واي تطور
تنموي في الخرطوم هو يتخذ هذه الآلية في الفرز الاجتماعي بما في ذلك عملية توزيع
السكن في الخرطوم.
تصف كريستينا الحواجز الاثنية والاجتماعية التي تحد من فرص الترقي
الاجتماعي في الخرطوم كمدينة، وإمكانيات الحراك الي اعلي علي المستوي الاقتصادى او
حتي مستويات التعليم لمن هم قادمين من الأطراف بقولها :" انه في الخرطوم
الوصول الي الفرص والموارد يعتمد بشكل كبير على العلاقات الاجتماعية... حيث أن
النجاح الاقتصادي أو التعليمي يجب وضعه في إطار انه مسألة عائلية واثنية ،إذا كان
يمكن الحصول عليه اصلا." هذه الحواجز تبرز من خلال عملية الازاحة الي أطراف
العاصمة سواء من خلال خطط سكنية بديلة لعشوائيات أو اضطرار سكان العشوائيات بعد
إزالتها الي الابتعاد إكثر حيث تنعدم الخدمات الرئيسية مثل المياه والمواصلات والكهرباء.
ويعاني الطلاب من صعوبة الوصول الي المدارس وخاصة الذين يدرسون في مدارس عليا لا
توجد الا في مناطق أقرب إلي مركز العاصمة , وأيضا طلبة الجامعات الذين جميعا
يعانون من التكاليف الباهظة والمرهقة على أسرهم مما يضطرهم الي ترك الدراسة ويقلل
من فرص التحصيل العلمي, نسبة لطول المسافات وبعد منازلهم وانعدام الكهرباء فيها
للدراسة ليلا. حيث انهم غالبا يصلون منازلهم بعد مغيب الشمس نسبة للرحلات التي
تستغرق ساعات ذهابا وإيابا من الجامعات والمدارس الي تلك المناطق العشوائية
البعيدة في أطراف العاصمة. ولذلك تتشكل دائرة مغلقة من الجهل ,الفقر , الاستغلال
والتمييز ضد هؤلاء السكان، ويشكل فيها عامل السكن والتمييز فيه والازاحة المستمرة
للسكان الي خارج مركز الخدمات جزءا رئيسيا من هذه الأزمة. حيث تستخدم قوانين
الأراضي لفرض إزالة العشوائيات بالقوة ولكي تتولد مزيد من المآسي والتمييز والاضطهاد
لسكان الهامش في داخل الخرطوم, وبهذا تتكرس حالة المواطنة المؤقتة التى تعيش دوما
خطر الطد والازاحة والافقار.
ان العشوائيات فى اطراف المدن التى نشات منذ منتصف القرن الماضى فى
كل مدن السودان واجهت اشكال منظمة من الترحيل القسرى والابعاد باستخدام العنف المفرط.
حيث كانت عمليات التخطيط فى المدن و فى الخرطوم مثلا تقوم على اساس اثنى بامتياز.
فكلما قام المهمشون فى العاصمة والنازحين بتعمير منطقة طرفية, يتم طردهم بالقوة
لاماكن اكثر بعدا من مراكز الخدمات الاساسية. حيث ان التاريخ حافل بمشاهد الترحيل
القسرى المؤلمة لسكان تلك المناطق العشوائية او مدن الكرتون , المقابل السودانى
لمدن الصفيح. حيث تتم عملية ازاحة مستمرة للسكان من الهامش فى الوسط ودفعهم للبقاء
فيما يبدو ان النظم الحاكمة فى المركز تعتقد انه مكانهم الطبيعى , اى ان يكونوا
دوما فى الاطراف وفى الهامش, حتى فى داخل مركز البلاد وعاصمتها.
في تقرير منظمة افريكان رايتس حول أوضاع النازحين في الخرطوم عام
1995 والذي سمي (المواطنين غير المرئيين
invisible citizens) تم وصف عمليات التهديم والترحيل
القسرى لسكان العشوائيات في الخرطوم بأنها " عمليات عسكرية يتم تنفيذها بقوة
ضارية وتتسبب في قدر كبير من المعاناة للسكان"، وانتقدت المنظمة مبررات
الحكومة لهذه العمليات بقولها " إذا كانت عمليات التهديم والترحيل هي في إطار
تطوير مدني عادي أذ كان يجب أن يتم إعادة توطين السكان وترحيلهم الي منازل أخرى
قبل أن يتم تهديم منازلهم وتشريدهم وتهديد أرواحهم وممتلكاتهم. " أن هذه
العمليات العسكرية كما وصفتها المنظمة كانت هي ديدن عمليات تهديم ونقل المعسكرات
والعشوائيات في الفترة من 1989 وحتي الآن. حيث أن السكان يتعرضون للعنف المفرط
الذي أدي في كثير من الحالات الي مقتل مواطنين ناهيك عن حالة التشرد والحياة
المأساوية التي نتجت عن هذه العمليات، هذا إضافة إلي أن النقل يتم دوما الي مناطق
ابعد وخارج دائرة الخدمات والمواصلات مما يسبب للسكان مزيد من المعاناة. واعتبر
تقرير المنظمة أن هذه العمليات القسرية لنزع الأراضي وتهديم العشوائيات يتم لأن
الحكومة تعتقد أن الأرض التي يتم نزعها يجب أن "يتم إعطائها للذين
يستحقونها". هذا الاستحقاق الذي لا يبدو أن الحكومة تعترف به سوي لمواطنين
معينين، وليس لهؤلاء الذين يتم طردهم منها، فهم كما يبدو غير مستحقين للسكن في هذه
الأراضي. ففي النهاية لا يبدو أن لهم نفس حقوق المواطنة مثل الآخرين الذين يتم
توزيع الأرض لهم بعد أن يتم تخطيطها ورفع قيمتها السوقية بسبب التخطيط نفسه وتوصيل
الخدمات التي تلي تلك العملية. حيث انه من أشهر عمليات الترحيل القسرى التي أدت
إلي قتلي بإعداد كبيرة هي عملية ترحيل السكان وتهديم العشوائيات في سوبا والتي جرت
في عام 2005. حيث قتل 50 شخص من بينهم رجال شرطة في عملية مقاومة الترحيل، وكذلك
عملية تهديم حي مانديلا في عام 2008، وكثير غيرها من الأحداث المشابهة التي لازالت
مستمرة الي الان بأشكال مختلفة.
ولم يكن هذا الترحيل القسرى فى عهد الانقاذ فقط كما يتوهم البعض,
بل هو عملية مستمرة من الدفع بالقوة نحو اطراف المدن, لكل السكان من الهامش
الافريقى الذين نزحوا بسبب الجفاف او الحروب. فقد تم ترحيل كرتون شمبات الى اطراف
شرق النيل وقتها الى كرتون كسلا , و بارونا, وهذا الترحيل تم فى السبعينات. اما فى
عهد الانقاذ فان ارتفاع وطاة الحروب زادت النزوح مما زاد من مناطق السكن التى تسمى
عشوائية. فكان ترحيل سكان العزبة فى التسعينات, وتلتهم عمليات ترحيل السكان من
مناطق مختلفة فى امدرمان من امبدة وغيرها الى اطراف بعيدة والى مناطق لا يوجد فيها
اى خدمات او حتى مقومات الحياة, مثلما ما حدث لسكان صابرين قبل سنوات وغيرها من
المناطق , وذلك رغم انها داخل العاصمة القومية. واما ما يسمى بالتخطيط السكانى
فانه لم يكن سوى اداة اخرى للتمييز الممنهج, حيث ان الاراضى الممنوحة كثيرا ما
تكون فى حدها الادنى وهو 200 متر فقط مهما كان عدد افراد الاسرة. حيث ان قوانين الاراضى
فى السودان لها نقاط كثيرة تحتاج المراجعة لانها تخدم المجموعة الاثنية المهيمنة
فى المركز المهيمن على السلطة والثروة. فقبل اسابيع قليلة تمت عملية هدم لمنازل فى
امبدة بدعوى ان الارض ملك للدولة وان عقود الايجار مع الدولة انتهت بعد مرور 25
عاما. وهذه الدعاوى لتملك الارض للدولة وعملية الهدم الفجائى العنيف, لا تتم ابدا
فى المناطق ذات الاغلبية السكانية من الوسط النيلى بشكل تاريخى ممتد, ولكنها اكثر
حدوثا فى مناطق معروف ان غالبية سكانها من القادمين من غرب السودان وجنوبه.
Email :
nawayosman@gmail.com
0 comments:
إرسال تعليق