هل دولة المواطنة هي بالضرورة الحل لأزمة إدارة التنوع الاثني والثقافي في السودان؟


عثمان نواي
هناك شبه اتفاق بين القوى السياسية والمفكرين والكتاب السودانيين على أن دولة المواطنة أو الدولة الديمقراطية هي الحل الأمثل والوحيد لازمات السودان خاصة مسألة التعدد والتنوع الاثني والثقافي. وهذه الأرضية يعتقد البعض أنها مساحة التلاقي المشتركة لإيجاد دولة تقبل الجميع بمختلف انتماءاتهم. ولا شك أن دولة المواطنة كنموذج مستقي من تجارب غربية معاصرة نجحت في صناعة دول تحترم الحقوق الفردية وتحقق قدر عالي من الحرية والمساواة خاصة على مستوى الأفراد. نموذج مساواة كل المواطنين أمام القانون والدستور ومؤسسات الدولة هو نموذج يسمى بالنموذج الأعمى لإدارة التنوع أو إدارة تنوع الهويات داخل الدولة المعينة، وهو نموذج يوصف بأنه "color blind"،أي أنه أعمى إمام الألوان والاختلافات بين كل فرد أو مواطن وآخر داخل الدولة. هذا النموذج يعطى الأفراد تحديدا فرص الترقي والحرية في ممارسة اختيارات حرة على المستوى الفردي في إطار القانون. كما يتمتع كل فرد بكامل الحقوق والحريات المكفولة للجميع بشكل متساوي تقريبا. أمثلة هذه الدول ذات القوانين العمياء تجاه التنوع بريطانيا مثلا او فرنسا. والدولتين الحقيقه لديهما ثقافة محلية مهيمنة انتصرت من قبل زمن طويل على ثقافات أخرى محلية كما أنها لها طابعا عالميا نسبة لتاريخ الاستعمار الذي فرض ثقافة هذه الدول على الآخرين وعلى المواطنين داخلها أحيانا بالعنف وأحيانا عبر قانون البقاء للأقوى. وبالتالي نجد أن السود والصينيين أو غيرهم في بريطانيا أو فرنسا يعرفون أنفسهم وبريطانيين وفرنسيين فقط، دون إعطاء اعتبار لخلفيتها الاثنية أو الثقافية. وربما يذكر الجميع عندما فاز منتخب فرنسا مؤخرا بكأس العالم كيف احتج سفير فرنسا في أمريكا على احد مقدمى برامج التلفزيون السود في أمريكا الذي قام بتهنئة كل السود والافارقة بفوزهم أيضا بكأس العالم. حيث قال السفير الفرنسي أن كل لاعبي الفريق هم فرنسيين فقط بغض النظر عن لونهم. لكن مقدم البرنامج والذي هو نفسه من جنوب أفريقيا رد بشكل مطول على السفير الفرنسي قائلا إنه يفتخر بأنه أمريكي وبأن انتماؤه لأمريكا كوطن لا يمحو هويته الثقافية الأفريقية ولونه الأسود لذلك يمكنه دوما إضافة هذه الهوية المتميزة لكونه أمريكي عندما يصف نفسه بأنه أمريكي اسود أو يقول انه أمريكي من أصل أفريقي كما يفعل ذلك الأمريكيين الآسيويين أو حتي العرب والمسلمين. ومن هنا يمكن توضيح النموذج الثاني لإدارة التنوع وهو النموذج الأمريكي والكندي أيضا، رغم أن كندا لها نقاط تفوقت فيها على أمريكا والعكس أيضا. هذا النموذج هو نموذج يؤكد على احترام التنوع بشكل ثابت ويجعل الاثنية المختلفة جزءا أصيلا من الانتماء للوطن نفسه. هذا النموذج يحترم الخصوصيات الثقافية والاثنية ويمنح كل فرد وكل مجموعة أيضا حرية التعبير عن نفسها ككيان داخل الكيان الجامع. هذا النموذج أيضا له أهمية خاصة لأنه يهتم بمراجعة التاريخ وإعادة الحقوق للمجموعات التي تم اضطهادها تاريخيا عبر تخصيص برامج لها للتمييز الإيجابي تساعدها على اللحاق بالمجموعات التي سبقتها في التعليم والتنمية والاقتصادية والحقوق السياسية. مثال ذلك السود وأيضا الأميركيين من أصل لاتيني. حيث أنه كل من يعيش فى أمريكا يملأ استمارات في كل مكان من المدرسة لاستخراج رخصة القيادة تسأل الشخص عن اثنيته وثقافته ولونه. هذا التساؤل ليس لأجل وضع الحواجز بل علي العكس لكي تقوم الحكومة بمراجعات مستمرة عبر هذه السجلات حول أعدادا الطلاب من الاثنيات المختلفة وفرص الوصول إلى الصحة والعمل اللائق والدخل الذي يحقق الكرامة لكل الاثنيات خاصة المضطهدة تاريخيا بشكل متساوى وقياس مدى التقدم في سد الفجوات بين الإثنيات المختلفة واتخاذ قرارات حول صنع برامج لتحسين وصول مجموعة معينة لحقوقها . وان كان هناك إجابة علي لماذا لم تقوم حرب أهلية ثانية في أمريكا ولماذا أصبح أوباما رئيسا فإن الإجابة هي فى نظام الاعتراف بالمظالم التاريخية وإعادة تصحيح التاريخ عبر التمييز لكن بشكل إيجابي. حيث تعطي السود واللاتينيين فرص عبر تخصيص منح دراسية خاصة أو مشروعات دعم اجتماعي تسهم في أن تلتحق هذه المجموعات التي كانت مضطهدة بأصحاب الامتيازات التاريخية من البيض على سبيل المثال. حيث انه لا يمكن أبدا المساواة بين أسرة أفارقة سود من الرقيق السابقين لأكثر من 400 سنة وبين البيض الذين عاشوا بحرية وفرص مواطنة كاملة. وبالتالي يتم ردم الفجوة بين المجموعات المضطهدة والمهمشين تاريخيا وبين المجموعات المهيمنة ذات الامتيازات، وبالنتيجة يحدث قدر من السلم الاجتماعي وصناعة جسور التعايش والعبور من مرارات الماضى نحو مستقبل مشترك أفضل للجميع، رغم أن الصراعات السياسية تظل قائمة لكنها لا تصبح حادة ولا مدمرة بل مجرد تنوع طبيعي في الرؤى التي يمكن إدارتها بشكل سلمي لمصلحة الجميع. وبالتالي يصبح التعبير عن الاختلاف ميزة إضافية للدولة التي تصبح أكثر غنى من غيرها.
ونموذج إدارة التنوع في أمريكا هو أحد أهم أسباب قوتها الناعمة التي تسيطر بها على العالم منذ نصف قرن. هذه القوة الناعمة التي تعتمد أساسا على الثقافات المتنوعة وإمكانيات الاثنيات الثقافية المتنوعة. حيث أن الأفارقة الأمريكيين امتلكوا العالم عبر ثقافة الهيب هوب والراب التي أصبحت ثقافة كونية في عصر العولمة الحالي، واصبح الراب موجودا في كل العالم، منا جعل صناع الموسيقي من السود من المليارديرات والذين بدورهم صنعوا فارقا كبيرا في مجتمعاتهم أيضا في أمريكا ككل على دعم ترشح رئيس أسود على سبيل المثال. بمعروف دور"Beyonce" مثلا وزوجها "JZ" في دعم حملة أوباما عبر أموالهم وشهرتهم. و في التكنولوجيا مثلا فإن الخبرات من الأصول الآسيوية صنعت فارقا كبيرا في قدرة أمريكا على السيطرة تكنولوجيا، وغيرها من الأمثلة الكثير . وبالتالي أصبح التنوع والحفاظ على الهويات الثقافية الاثنية داخل الكيان الأمريكي الجامع هو مصدر الغني الرئيسي وليس أزمة كما هو حالنا في السودان.
لذلك الديمقراطية ودولة المواطنة والمساواة أمام القانون والدستور ليس هو الحل لأزمة إدارة التنوع في دولة مثل السودان. بل هناك عملية طويلة من إعادة فتح ملفات التاريخ ورد الحقوق والمساواة التي تستصحب ظلمات الماضي لتأهيل المجتمعات لعيش حاضر ومستقبل أفضل. حيث انه لا يمكن المساواة بين المواطنين كأفراد دون الالتفات حقيقة انتماء بعضهم إلى مجموعات اثنية تم تهميشها واضطهادها وتعرض بعضها لتجارب مثل الاسترقاق ومن ثم تعرضت لويلات حروب لعقود طويلة ناهيك عن التمييز العنصرى من الدولة والمجتمع. في حين أن مواطنين آخرين هم من مجتمعات مستقرة لم تشهد أي من تلك التجارب بل قام بعض منها بممارسة الجانب السئ منها تجاه الآخرين. هذا التاريخ له تراكماته السلبية والإيجابية، فالسلبية صنعت الفقر والتهميش والاستغلال والاضطهاد والتمييز. والإيجابية صنعت الامتيازات والمواطنة من الدرجة الأولى على حساب الآخرين. وعليه فإن دولة المواطنة والقانون المراد إقامتها في السودان يجب أن لاتكون ابدا "color blind "،كما يرى البعض خاصة من النخب التي تريد أن تردم تاريخ طويل من المعاناة لشعوب عديدة والبداية من نقطة صفرية حديثة مابعد التغيير علي سبيل المثال. لكن محو التاريخ أمر ليس ممكن لكن تصحيحه هو الممكن وهذا ما إثبتته تجارب الدول الناجحة وما تثبته تجارب التاريخ. ولذلك فإن محالاوت الالتفاف على حقوق الشعوب المضطهدة في السودان في العدالة الانتقالية والتمييز الإيجابي عبر الترويج لدولة مواطنة عمياء لن ينتج سوي صراعات جديدة، لكن بادوات مختلفة. ولكن إذا تم ادارة التنوع الثقافي بشكل يحترم كل خصوصية ثقافية لكل مجموعة اثنية داخل وطن جامع يسع الجميع فإن هذا سيكون تحقيق صيرورة تاريخية ربما شاءت من البداية لأن يكون السودان كدولة يحمل كل هذا الثراء الذي من المؤلم أن يكون سببا للتناحر بدلا ان يكون سببا للازدهار والتميز والتطور في ظل تنوع طبيعي وثقافي وغني بالموارد البشرية والطبيعية والموروثات التاريخية ليس له مثيل الا في دول مثل الهند، التي كان ينظر الانجليز للسودان على أنه الشبيه بهذه الدولة القارة التي هي الآن من أسرع الاقتصادات نموا في منافسة مع العمالقة مع الصين وغيرها. لكن البداية هي في فتح أعيننا بشجاعة لمواجهة الماضي وإغلاق صفحاته عبر تثبيت الحقائق وتصحيح ما أمكن ورد الحقوق وشحذ الهمم للمضي قدما. وهذه هي الإرادة السياسة التي يجب أن تكون موجِه التغيير المنشود في السودان.
nawayosman@gmail.com

Share on Google Plus

عن المدون gazalysidewalk.com

هنا نبذة عن المدون ""
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 comments:

إرسال تعليق