بقلم عثمان نواى
في الأيام الماضية اتضح مقدار الرعب من التقدم نحو الانفتاح الذهني
وتثبيت الحريات الأساسية والتنوع في النظرة إلى قضايا المجتمع ذات الاهمية، بدءا
من قضية المرأة وحريات الشباب في الملابس والاختلاط الي حرية إبداء الرأى وخاصة في
مواجهة المؤسسة الدينية المهيمنة. ما اثاره برنامج شباب توك من جدل بين فئات
مختلفة من المجتمع، إنما يدل على هشاشة قدرة المجتمع السوداني علي النظر الي نفسه
في المرآة، ويدل علي مدي الرعب من فتح اي نقاش شفاف حول أوضاع الحياة الحقيقية
التي يعيشها الناس في الشارع السوداني والإصرار على العيش في أوهام لا تنتهي.
ابتداءا من وهم الشرف والعفاف والفضيلة التي يحرسها أكثر الفاسدين أخلاقيا من تجار
الدين وعلماء السلطان، وحتي اوهام الهيمنة الأبوية علي الأخلاق وتحديد مستوى
ارتفاع وانخفاض أصوات الشباب في ابداء آرائهم، مرورا بالتأكيد بالوهم الكبير، وهو
وهم وجود الدولة السودانية العربية المسلمة المستقرة على قيم واحدة ثابتة جامعة
لكل مكونات السودان.
ان أوهام السودانيين حول أنفسهم من المؤسف أن برنامج حوارى صريح
لاقل من ساعة زمن تمكن من هز مجتمع كامل بهذه الطريقة. ان هشاشة السودانيين وعدم
قدرتهم على مواجهة ازماتهم من أكثر ما يثير الرعب من إمكانيات وجود امل في تغييرات
جوهرية في المستقبل. فعمليات العنف والهجمات الممنهجة لإسكات الأصوات وخاصة للشباب
والنساء الذين يطالبون بتغيير حقيقي يمس حياتهم ويواكب واقعهم إنما تدل على أن
ألمتوهمين الذين قادوا السودان بأحادية وابوية كاملة لعقود يحاولون الدفاع عن
مواقعهم بكل ما يملكون من قوة ولو من خلال إطلاق يد المتطرفين والبدو قطاع الطرق
القادمين إلى المدينة حديثا للهجوم على الشباب والنساء ومحاولة إسكات أصوات
التغيير.
ان ما يجرى الان من هجوم من قبل ما يسمي بالدعم السريع علي الشباب
وما جرى من ردود فعل وغضب علي تعليقات بعض الشابات في برنامج شباب توك، إنما هو
أحد وجوه السودان المظلمة التي توضح مدي عمق رفض أزمة أحادية الدولة وابويتها
ورفضها الكامل للتنوع وقبول الآخر اي كان مصدر اختلافه، سواء كان ديني أو اثني أو
عرقي أو جنسي أو ثقافي. ان دولة السودان المركزية التي فرضت لونا واحدة للدولة منذ
الاستقلال ورفضت ألوان السودان العرقية والثقافية والدينية وأصرت على صبغ البلاد
كلها بلون واحد هو لون معاكس تماما لاسم السودان نفسه وهو البياض، تشهد الان مدى
هشاشتها وتتجه نحو دفع اثمان غالية جدا لهذه الأحادية القسرية للفكر والثقافة
والدين واللون والاثنية والمنهج السياسي. عندما فرضت النخب الحاكمة للسودان منذ
الاستقلال العروبة والإسلام دون غيرها، وصبغت البلاد ببياض لون مستعار في محاولة
مشوهة لتوحيد اللون السوداني الأسود، إنما جرت عمليات فسخ وتفسخ كامل للمجتمع السوداني
ككل من أي إمكانيات لصناعة دولة متنوعة تقبل آراء مختلفة وثقافات عديدة، وبالتالي
دولة قادرة على الانتقال إلى التحضر والتقدم عبر قبول التعدد داخلها والتعدد
التنوع الذي يجلبه التقدم الحضارى والاحتكاك مع العالم والاستنارة الفكرية
والتنمية والتقدم. حيث أن الانتقال من البداوة والتخلف الي الحضارة بشكل عميق
تنطلق من اذهان منفتحة علي الاخر، وعندما رفضت النخب الحاكمة تقبل التنوع والآخر
في داخل السودان فشلت أيضا في تقبل قيم التحضر والاستنارة التي تأتي من العالم.
وبالتالي فشلت الدولة السودانية المركزية الأحادية اللون في أحداث اي نقلة حضارية
وتقدم في المجتمع السوادني بشكل عميق. وجرت البلاد الي حالة مستمرة من العنف
والنزاعات وذلك برعاية القوى الدينية والسلطة الأبوية التي لازالت ترفض التنوع بكل
أشكاله سواء في ثقافات الاثنيات المتنوعة أو في أفكار الشباب أو في تطلعات النساء
للحرية أو في رغبات المجتمع ككل في اللحاق ببقية العالم.
ان كهنة معابد الفضيلة المزيفة المبنية على جماجم السودانيين وعلي
شرف السودانيات المغتصبات جماعيا في دارفور أوغيرها، هؤلاء يدافعون عن مكانتهم بكل
ما يملكون من وسائل، من ضمنها التحالف مع ضحايا دولة التخلف وانعدام التنمية ووهم
العروبة والإسلام من المرتزقة وقاطعي الطرق الذين صنعتهم دولة المركز الأحادية هذه
لخدمة أهدافها المريضة في السيطرة على السودان تحت عمائم وعباءات الزيف والفساد.
فأين علماء السلطان من فساد رئيسهم ومن جرائم الاغتصاب الجماعي في دارفور التي
يرتكبها نفس هؤلاء الذين يحلقون رؤوس الشباب في الخرطوم مدعين حماية الفضيلة؟ أن
هذا التناقض المنهجي والهيكلى في الدولة السودانية هو الذي سيؤدي بعده البلاد إلى
الفوضى الكاملة مع اصرار هؤلاء الكهنة على حكم السودان باحاديتهم التي أثبتت فشلها
التام.
في الجانب الآخر فإن مقاومة هذه الدولة الأحادية وهيمنتها تتجلى في
عمليات الرفض الكامل لها ولكن خارج كل القنوات الرسمية للإعلام والدولة. حيث أن
الشباب تحديدا يبدو أنهم يحملون داخلهم ثورات كامنة لن تسمح باستمرار هذه الدولة
الفاشلة في كتم أنفاسهم طويلا. المجتمعات المهمشة أيضا لها مكانها في صناعة مسارات
التجاوز الخاصة بها في مجتمعاتها التي أصبح لها تأثير فيروسي في نقل الموسيقي
وثقافة الملابس والرقص والقيم التي تتحدى واقع الفر والتهميش المرير عبر الكثير من
الانتفاضات الصغيرة علي نظام الكبت والاحادية. فموسيقي الزنق التي اصبحت لها حفلات
خاصة بها ذات جماهيرية عالية، والملابس الأفريقية التي اصبحت تقريبا هي موضة
الشباب ناهيك عن تربية الشعر وظاهرة الراستات التي لها بعدها الأفريقي والموسيقى
والفني المرتبط بتاريخ المقاومة الأفريقية في السبعينات. كل هذه المظاهر وغيرها هو
انتفاضات صغيرة تشكل هزات عميقة في واقع الدولة الأحادية الهشة التي تعلن فشلها
عبر مزيد من التطرف والعنف لإسكات الأصوات المختلفة عنها والمواجهة لها. ولذلك فإن
الواقع يثبت تماما أن أوهام الدولة الأحادية اللون تتحطم ولكن هشاشة البنية
والأخطاء التاريخية المتراكمة سوف تجعل الانهيار القادم مدوى إذا لم يتم اعتراف
كامل بفشل تلك الدولة الأحادية الأبوية والاعتراف بالمقابل بالواقع الذي يفرض نفسه
بقوة والذي تمثل في أن تنوع الشباب والثقافات السودانية المختلفة التي يفرض
انفتاحا وقيما أخلاقية واجتماعية قد تكسر المفروض عليها قسرا ولكنها الوسيلة أيضا
للانتقال للمستقبل، بحرية واذهان منفتحة وقيم لا ترفض دين احد ولكنها أيضا لا تفرض
دين البعض وقيم البعض علي الجميع. ان قيم احترام الآخر واحترام التنوع التي أصرت
الدولة الأحادية المركزية منذ الاستقلال على قمعها وقتلها هي التي تهدد بالفوضى في
السودان لأن التنوع هو سنة العالم الحديث الذي نعيشه، وإذا استمر الإصرار على
الأحادية والأبوية في الدولة السودانية ومن قبل النخب الحاكمة فإن نذر الفوضي التي
تجرى الان سوف تكون البداية فقط لنهايات سيدفع ثمنها الجميع وعلي رأسهم حراس
الفضيلة والمتوهمين والادمغة المغسولة التي لازالت تصدق هذه الاوهام المزيفة .
nawayosman@gmail.com
nawayosman@gmail.com
0 comments:
إرسال تعليق