دومينو الفشل : خطايا النخب المركزية في حق مجتمعاتها



عثمان نواي

ان النخب السياسية التى حكمت السودان منذ الاستقلال خاصة فى المركز المهيمن على السلطة قد ظلمت المجتمعات التى خرجت منها بقدر كبير للغاية عندما فشلت فى تحريرها من البنى الاجتماعية الماقبل استعمارية، وبالتالى كرست البنى والعقلية المجتمعية التى تعتمد على علاقات إنتاج وتراتبية اجتماعية متخلفة مرتبطة بارث تجارة الرق والعلاقات الاجتماعية الأبوية والارتباط بالغيب بديلا عن العقل وأعمال الفكر والحرية والعدالة الاجتماعية. حيث أن النخب المركزية فشلت في تحرير مجتمعاتها من الحاجة إلى اللجؤ إلى ذهنية وتراتبية علاقات الاسترقاق، أو الخضوع إلى غيبيات المقدسات وسلطات الآباء والهياكل القبلية وذلك بالحفاظ على تلك المجتمعات فى قبضة البنى الهيكلية القبلية والطائفية وعلاقات الإنتاج الريفي البدائى الذى حافظ على نفس شكل المجتمع السودانى فى داخل المناطق الشمالية والمركز على نفس النمط ما قبل الاستعمار.

 حيث أن الاستعمار البريطاني فى السودان كان غير مجتهد في تفكيك البنى التقليدية للمجتمع لأنه أراد الحكم بأقل تكلفة ودون تحدى السلطات التقليدية المهيمنة. ولكن النخب التى حكمت ما بعد الاستعمار فإنها فشلت فى التحرير والتعمير معا. فهى لم تتمكن من تحرير العقول والمجتمعات من قيود الحاجة إلى البقاء في منظومة إرث الاسترقاق والسلطة الأبوية والخضوع المقدس لكى تتمكن من مواصلة حياتها، ولم تصنع لها نماذج اجتماعية واقتصادية وثقافية بديلة تحررها من هذه الحاجة. حيث ظلت العمليات الإنتاجية الأكثر انتشارا فى السودان خاصة الرعى والزراعة أسيرة لبنى تقليدية ترجع إلى القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وبالتالى لم ينتقل المجتمع ولم يرتقى ابدا حتى ينظر لنفسه اولا بشكل أكثر تحررا من الحاجة إلى تصنيف الاخرين وتصنيف نفسه أيضا كسادة وعبيد أو شيوخ وحوار واتباع .

 ان أسر الاسترقاق الذى يكبل الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في السودان، هو فى الحقيقة ذو اتجاهين يربط المجتمعات التى تم استرقاق جزء منها والمجتمعات التى استفاد بعض منها من الرق. والحاجة إلى التحرر من هذه القيود مرتبط للغاية بواقعنا الراهن كما هو مرتبط بماضينا. لأن عبارة عبد لازالت تصنع الفارق بين مناطق النزاع وغيرها فى السودان حيث ان خارطة السودان لازالت منقسمة بين المناطق التى جرى فيها استرقاق وتلك التى استخدمت الرقيق. بنفس القدر فإن عقلية الخضوع للسلطة الأبوية والنقدية تكبل العقل الجمعى والفردى وتعيق حرية الفكر والضمير للفرد والمجتمع. اذن الهروب إلى الأمام لن يفيدنا. ولهذا فإن فشل النخب السياسية المركزية فى تحرير مجتمعاتها وتحويلها إلى مجتمعات أكثر حداثة واقدر على الإنتاج وإقامة علاقات اجتماعية وعلاقات إنتاج دون الحاجة إلى استغلال الآخرين، هو الفشل الذى قاد السودان إلى الانهيار التام. و إذا كان المستعمر فشل فى تطوير المجتمع السوداني لأنه لا يريد تحمل التكاليف، فإن النخب فشلت لسببين الأول هو الكسل الفكرى وعدم الرغبة فى العمل الجاد الذى يتطلبه التحديث والرغبة في الوصول إلى السلطة والثروة بأقل تكلفة ،و السبب الثانى هو عجز تلك النخب عن الخروج من جلاليب وعمم وشالات وقفاطين آبائهم. فهم أيضا خافوا من تحدى سلطة آبائهم، ولذلك لجأوا إلى ذات العلاقات والسلطة التقليدية، حيث أن السودان اجتماعيا وسياسياً لم يتغير منذ التركية وعهد سنار ظل بنفس البنى التحتية في المجتمع ووعى الأفراد. فالشيخ أو الفكى بدلا من سياقة الحلة أو القبيلة إلى نوبة  الزكر أو قبة  ومولد الفكى  أصبح يسوقهم إلى صندوق الانتخابات. وبالتالى لا جديد، تحولت الختمية للحزب الاتحادي والمهدية لحزب الأمة، وبعض متعلمي واتباع الطرق الصوفية الظانين انهم تحرروا منها وأصبحوا أكثر تقدما أصبحوا اخوان مسلمين. الأمر الذى قاد إلى أن يظل المجتمع السوداني خاصة في المركز مرهون بعقلية تقليدية بدائية فى كل جوانبها الاجتماعية والاقتصادية وبالتالى استمرت نفس تراتبية المجتمع ونفس وعيه وقدرته المحدودة على الإنتاج، وبالتالى استمرار الاستغلال والاحتقار للآخر  كأحد وسائل البقاء وليس فقط احتكار السلطة أو تكدس الثروات. لذلك تم حصر مواعين المواطنة بعد تكوين الدولة السودانية بعد الاستقلال فى القوى الاجتماعية المركزية وتهميش بقية السودانيين، خاصة أولئك الذين ينتمون تاريخيا لمناطق خارج المركز المهيمن.

لذلك فإن النظرة للواقع السوداني الراهن يوضح أن الفشل الذى حدث من قبل القوى السياسية في المركز تجاه مجتمعاتهم نفسها هى سبب رئيس فى أزمة السودان ككل، وان مجتمعاتهم خسرت عقود طويلة من إمكانية الوصول إلى وسائل حياة أفضل دون الحاجة إلى أن تظل اسيرة لتاريخها وممارساته الخاطئة. لذلك النقلة النوعية في السودان ليست اقتصادية وتنموية فقط بالتأكيد، لكنها اجتماعية واقتصادية معا تقودها رؤية سياسية واعية مبنية على فكر مبدئي عقلاني ينقل المجتمع نحو العصر الحديث وإعادة هيكلة علاقاته حتى يصبح الإنسان وكرامته وحريته هى محور التركيز، وعليه تكون دولة المواطنة التى يكون المواطن فيها له حقوق كاملة متساوية ويتمتع بحرية إرادة تمكنه من التطور الذاتى الذى يقود إلى تقدم المجتمع والوطن ككل.

Share on Google Plus

عن المدون gazalysidewalk.com

هنا نبذة عن المدون ""
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 comments:

إرسال تعليق