خالد فتحي
نهار الخميس 17 يناير 2019، كان يوماً ذا نهكة مختلفة، الأمن
والشرطة السرية شنّت حملة شعواء قبل بدء موكب الرحيل الخامس، الذي دعا إليه تجمع
المهنيين السودانيين.
قبل الساعة الواحدة، جاءنا أفراد الأمن، حينما كنا وقوفاً قرب شارع السيد عبد الرحمن، وطلب صعودنا على "بوكس الأمن"، نحن الثلاثة، أنا، والصحفية شمائل النور والصحفي حمد سليمان الخضر، توقّفنا قليلاً بشارع السيد عبد الرحمن، قرب مبنى كمبوني، اقتادونا الى ميدان أبو جنزير "مكان الموقف السابق" وعلى الفور أمرونا بالنزول والجلوس على الأرض.
وهناك انهالوا علينا بالضرب الشديد والإهانات والإساءات ونحن جالسون على الأرض، ظللنا جالسين على الارض في حفلة الضرب "النهارية" على الهواء مُباشرةً، في مشهدٍ يُوضّحٍ بجلاء، انهيار الدولة، وتحولها الى كيان اشبه بعصابات المافيا، وسط غياب كامل للقانون وسيادة تامة لشريعة الغاب.
ثم انتزعوا هواتفنا واستولوا على "شال" يخص الزميل حمد سليمان .
أبلغت فرد الأمن الذي بدأ في جمع الهواتف بأننا صحفيون وجئنا لتغطية الحدث، انتهرني بعنف قائلاً: "يا زول نحن مالنا ومالك، أنا ما بعرف صحفي ولا جن، أنا قلت أبقى صحفي".
بعض أفراد الأمن كانوا يستلذون بضرب وإهانة المعتقلين بشكل غريب، حتى إن أحدهم كان يحمل "كباية قهوة" بشماله وينهال علينا ضرباً بيمينه، كأن يرغب في إكمال "كيف قهوته" بالتنكيل والضرب، وهو يردد في غل وحقد شديد وعيناه تتطايران بالشرر : "إنتو دايرين تكتموها، والله نحن قاعدين في البلد دي،الحكومة دي تقعد بس".
ثم بدأوا في استفزاز الشباب ذوي الشعر الكثيف وهم يهددونهم قائلين: "جيب الموس عشان نحلق ليهم شعرهم دا".
وأثناء حفلة الضرب النهارية على الهواء مُباشرةً لمئات المعتقلين كانوا يصرون على أن نخفض رؤوسنا "نزّل راسك تحت، ما ترفع رأسك فوق"، وكان معظمهم حريصين جداً على عدم إزالة اللثام عن وجوههم.
بعدها دوّن أحد أفراد الأمن أسماء المعتقلين في دفتر وجمعوا الموبايلات مع إرسال تحذير شديد بأنّ كل من يحتفظ بموبايله سيتعرّض لعقاب شديد.
بعد ساعة ونصف الساعة تقريباً أمرونا بالصعود على أحد الدفارات ولم نجلس سوى دقائق حتى أمروا بعضنا بالنزول والصعود الى دفار آخر، مع التحذير الشديد والمطالبة بخفض الرؤوس وعدم النظر الى الوجوه أو التحدث مع أيّ أحدٍ.
ثم توجهنا الى مقر شرطة العمليات بالخرطوم قرب جامعة النيلين ومنها الى قسم شرطة الخرطوم شمال، لم ننزل الى القسم مُباشرةً لانه كان ممتلئاً عن آخره فيما يبدو، ظللنا لأكثر من ساعتين جالسين على أرضية الدفار، لم يتركونا فيها لحظة واحدة ننعم بالهدوء، حيث عذبونا بالكلام "الخارم بارم" والحديث من شاكلة "انتو دايرننا نبقى زي ليبيا وسوريا"، وكانوا يحاولون باجتهاد شديد "جر الشكل مع أيّ واحد من المعتلقين"، ليعودوا الى ضربهم والتنكيل بهم، لكن وعي المُعتقلين الذين فطنوا لمُحاولاتهم أفشلت مُخطّطاتهم الخبيثة!
بعدها أمرونا بالنزول، وهنا أيضاً حاولوا جرنا للشكل بقولهم "دا شنو مليتوا الدفار دا كله بعر كدا، الكلام دا ما عيب منكم"، لكن أيضاً كانت انتباهة المعتقلين وابتسامتهم الهازئة حاضرة ما جعل أفراد الأمن يرتدون خائبين.
داخل قسم شرطة الخرطوم شمال دوّنوا أسماء المعتقلين ودخلنا تباعاً الى الحراسة التي امتلأت عن آخرها بالمئات من المعتقلين والمعتقلات.
تنفّسنا قليلاً، بعد المغرب بدأت المعتقلات في ترديد النشيد الوطني بصوت مرتفع سرعان ما سرت نفحة الأمل، وبدأ المعتقلون في تنظيم أنفسهم، وبث روح المؤازرة والتضامن وضج المكان بالهتاف حتى زلزل أسوار قسم الشرطة: "حُرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب"، "تسقط تسقط تسقط بس".. "أيّ كوز ندوسو دوس ما بنخاف ما بنخاف".. "سلمية سلمية ضد الحرامية"، "نحن مرقنا وماراجعين وين الفاتح عزالدين".
وغيرها من الهتافات الثورية المدوية التي أفلحت تماماً في تحويل كفة الميزان لصالح المعتقلين وبدأ بعضهم في الغناء والنشيد.
من المشاهد المؤثرة يوم الخميس، كان مشهد استقبال الأستاذ الصحفي فيصل محمد صالح عند وصوله الى حراسة قسم الخرطوم شمال للانضمام الى المعتقلين هناك!
بعد دوي الهتاف جاء أحدهم وتوعّد بأن الأمن سيقوم بترحيل الجميع الى مقر الأمن السياسي، لكن تهديده ذهب جفاءً وتبخر مع الهواء ولم يفزع أحداً، وتهيأ معظم الناس لاحتجاز طويلٍ قد يمتد الى الأحد باعتبار ان يومي الجمعة والسبت عطلتان رسميتان.
أُطلق سراحي قبل منتصف الليل بقليل، وازددت يقيناً بأن هؤلاء الذين خرجوا لا يستحقون ان يحكمهم البشير ولا نظامه، وأيضاً لن يثنيهم عن عزمهم القتل والضرب والاعتقال والتشريد والتخويف والملاحقة، هذه ثورة شعب مهرت بالدماء الغالية ولا بُدّ أن تبلغ مبتغاها ولو بعد حين.
أنشودة لعصام الجاك..
هذه المشاهد لموكب الرحيل السادس، مهداة الى روح صديقي المناضل المقاتل عصام الجاك الذي هرع الى الخرطوم بعد تفجر الحراك الجماهيري ليشهد معنا ساعة الفجر الذي انتظره طويلاً، ورحل يوم الأربعاء الماضي دون أن تكتحل عيناه برؤية مدينته التي أحب، كسلا وهي تخرج في موكب ضخم، كسلا التي استقلبته ورفاقه بأكاليل الورد عند عودتهم مع طلائع جيش الفتح بعد توقيع اتفاقية السلام في 2005.
قبل الساعة الواحدة، جاءنا أفراد الأمن، حينما كنا وقوفاً قرب شارع السيد عبد الرحمن، وطلب صعودنا على "بوكس الأمن"، نحن الثلاثة، أنا، والصحفية شمائل النور والصحفي حمد سليمان الخضر، توقّفنا قليلاً بشارع السيد عبد الرحمن، قرب مبنى كمبوني، اقتادونا الى ميدان أبو جنزير "مكان الموقف السابق" وعلى الفور أمرونا بالنزول والجلوس على الأرض.
وهناك انهالوا علينا بالضرب الشديد والإهانات والإساءات ونحن جالسون على الأرض، ظللنا جالسين على الارض في حفلة الضرب "النهارية" على الهواء مُباشرةً، في مشهدٍ يُوضّحٍ بجلاء، انهيار الدولة، وتحولها الى كيان اشبه بعصابات المافيا، وسط غياب كامل للقانون وسيادة تامة لشريعة الغاب.
ثم انتزعوا هواتفنا واستولوا على "شال" يخص الزميل حمد سليمان .
أبلغت فرد الأمن الذي بدأ في جمع الهواتف بأننا صحفيون وجئنا لتغطية الحدث، انتهرني بعنف قائلاً: "يا زول نحن مالنا ومالك، أنا ما بعرف صحفي ولا جن، أنا قلت أبقى صحفي".
بعض أفراد الأمن كانوا يستلذون بضرب وإهانة المعتقلين بشكل غريب، حتى إن أحدهم كان يحمل "كباية قهوة" بشماله وينهال علينا ضرباً بيمينه، كأن يرغب في إكمال "كيف قهوته" بالتنكيل والضرب، وهو يردد في غل وحقد شديد وعيناه تتطايران بالشرر : "إنتو دايرين تكتموها، والله نحن قاعدين في البلد دي،الحكومة دي تقعد بس".
ثم بدأوا في استفزاز الشباب ذوي الشعر الكثيف وهم يهددونهم قائلين: "جيب الموس عشان نحلق ليهم شعرهم دا".
وأثناء حفلة الضرب النهارية على الهواء مُباشرةً لمئات المعتقلين كانوا يصرون على أن نخفض رؤوسنا "نزّل راسك تحت، ما ترفع رأسك فوق"، وكان معظمهم حريصين جداً على عدم إزالة اللثام عن وجوههم.
بعدها دوّن أحد أفراد الأمن أسماء المعتقلين في دفتر وجمعوا الموبايلات مع إرسال تحذير شديد بأنّ كل من يحتفظ بموبايله سيتعرّض لعقاب شديد.
بعد ساعة ونصف الساعة تقريباً أمرونا بالصعود على أحد الدفارات ولم نجلس سوى دقائق حتى أمروا بعضنا بالنزول والصعود الى دفار آخر، مع التحذير الشديد والمطالبة بخفض الرؤوس وعدم النظر الى الوجوه أو التحدث مع أيّ أحدٍ.
ثم توجهنا الى مقر شرطة العمليات بالخرطوم قرب جامعة النيلين ومنها الى قسم شرطة الخرطوم شمال، لم ننزل الى القسم مُباشرةً لانه كان ممتلئاً عن آخره فيما يبدو، ظللنا لأكثر من ساعتين جالسين على أرضية الدفار، لم يتركونا فيها لحظة واحدة ننعم بالهدوء، حيث عذبونا بالكلام "الخارم بارم" والحديث من شاكلة "انتو دايرننا نبقى زي ليبيا وسوريا"، وكانوا يحاولون باجتهاد شديد "جر الشكل مع أيّ واحد من المعتلقين"، ليعودوا الى ضربهم والتنكيل بهم، لكن وعي المُعتقلين الذين فطنوا لمُحاولاتهم أفشلت مُخطّطاتهم الخبيثة!
بعدها أمرونا بالنزول، وهنا أيضاً حاولوا جرنا للشكل بقولهم "دا شنو مليتوا الدفار دا كله بعر كدا، الكلام دا ما عيب منكم"، لكن أيضاً كانت انتباهة المعتقلين وابتسامتهم الهازئة حاضرة ما جعل أفراد الأمن يرتدون خائبين.
داخل قسم شرطة الخرطوم شمال دوّنوا أسماء المعتقلين ودخلنا تباعاً الى الحراسة التي امتلأت عن آخرها بالمئات من المعتقلين والمعتقلات.
تنفّسنا قليلاً، بعد المغرب بدأت المعتقلات في ترديد النشيد الوطني بصوت مرتفع سرعان ما سرت نفحة الأمل، وبدأ المعتقلون في تنظيم أنفسهم، وبث روح المؤازرة والتضامن وضج المكان بالهتاف حتى زلزل أسوار قسم الشرطة: "حُرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب"، "تسقط تسقط تسقط بس".. "أيّ كوز ندوسو دوس ما بنخاف ما بنخاف".. "سلمية سلمية ضد الحرامية"، "نحن مرقنا وماراجعين وين الفاتح عزالدين".
وغيرها من الهتافات الثورية المدوية التي أفلحت تماماً في تحويل كفة الميزان لصالح المعتقلين وبدأ بعضهم في الغناء والنشيد.
من المشاهد المؤثرة يوم الخميس، كان مشهد استقبال الأستاذ الصحفي فيصل محمد صالح عند وصوله الى حراسة قسم الخرطوم شمال للانضمام الى المعتقلين هناك!
بعد دوي الهتاف جاء أحدهم وتوعّد بأن الأمن سيقوم بترحيل الجميع الى مقر الأمن السياسي، لكن تهديده ذهب جفاءً وتبخر مع الهواء ولم يفزع أحداً، وتهيأ معظم الناس لاحتجاز طويلٍ قد يمتد الى الأحد باعتبار ان يومي الجمعة والسبت عطلتان رسميتان.
أُطلق سراحي قبل منتصف الليل بقليل، وازددت يقيناً بأن هؤلاء الذين خرجوا لا يستحقون ان يحكمهم البشير ولا نظامه، وأيضاً لن يثنيهم عن عزمهم القتل والضرب والاعتقال والتشريد والتخويف والملاحقة، هذه ثورة شعب مهرت بالدماء الغالية ولا بُدّ أن تبلغ مبتغاها ولو بعد حين.
أنشودة لعصام الجاك..
هذه المشاهد لموكب الرحيل السادس، مهداة الى روح صديقي المناضل المقاتل عصام الجاك الذي هرع الى الخرطوم بعد تفجر الحراك الجماهيري ليشهد معنا ساعة الفجر الذي انتظره طويلاً، ورحل يوم الأربعاء الماضي دون أن تكتحل عيناه برؤية مدينته التي أحب، كسلا وهي تخرج في موكب ضخم، كسلا التي استقلبته ورفاقه بأكاليل الورد عند عودتهم مع طلائع جيش الفتح بعد توقيع اتفاقية السلام في 2005.
0 comments:
إرسال تعليق