لغة الراندوك : لغة الثورة ام الانحطاط؟


بقلم عثمان نواى
من أهم أزمات الدولة السودانية المركزية هى عدم الاعتراف بالآخر، اى كان هذا الآخر. وفى بلاد متنوعة لغويا بشكل واسع مثل السودان بوجود ما لا يقل عن ٥٠٠ لغة حية، فإن الحديث عن لغة عامية شبابية على أنه انحطاط هو قصر نظر وتعالى ووصاية وجبت الثورة عليها بنفس قدر الثورة على النظام. اولا من المهم جدا أن يفهم الكثيرون ان لغة الراندوك هى ليست مجرد كلمات، بل هى آلية بقاء survival mechanism لمستخدميها الاصليين. وهم الذين أنشأوها من المشردين والمسحوقين الذين يعيشون في أطراف المدن والمجارى او المسمين بالشماسة لدى البعض. ومن هم الشماسة ؟ ما هم حقيقة سوى ضحايا الحروب والنزاعات والافقار المتعمد لأرياف السودان ،فاصبحوا من فاقدى المأوى الذين شردتهم الدولة ولم يؤيهم او يتعاطف معهم المجتمع.
وفى ردة فعل على هذا الاقصاء وفى محاولة للعيش بأمان خارج دوائر المجتمع الرافض لهم اصلا كان لا بد لهم من صناعة اكواد خاصة للتواصل، تحميهم وتمكنهم من العيش وسط الغابة البشرية المستعدة لالتهامهم فى كل لحظة. لحماية أنفسهم من قمع الدولة عبر الشرطة وغيرها ،إضافة الى إيجاد سبيل للتفاهم لا يكشف أساليب عيشهم التى اضطروا لها، التى قد يصنفها البعض أجراما، مثل السرقة او النشل، ولكن عمر بن الخطاب صنفها فى مكانها الطبيعى، على انها مجرد آليات للبقاء فى زمن الجوع والفقر والظلم، حينما عطل الحد عليها. ولكن فى زمن عمر البشير ومن حكموا قبله، ليس لهؤلاء الباحثين عن لقمة العيش بين قمامة البشر سوى اقتناص بعض الفرص لاقتلاع حقهم الأساسي فى الحياة.
ان انحطاط لغة الراندوك أن وجد، انما هو انعكاس لانحطاط قيم مجتمع لم يتمكن من إيجاد مساحات للتضامن واحتضان الضحايا من حروب وتشريد وافقار ومظالم صنعت خصيصا لحماية امتيازات البعض على حساب البعض الاخر فيما يصطلح افتراضيا انه وطن واحد. وان احتضان الشباب للغة الراندوك خارج محاضنها الطبيعية وسط المشردين ومسحوقى أطراف المدن، وتمكن هذه اللغة بين فئات الشباب من الطبقة الوسطى وحتى العليا اقتصاديا والمستقرة اجتماعيا، هذا الاحتضان ليس سوى تعبير عن مقاومة أخرى ورفض بشكل اخر للمجتمع الذى يريد هؤلاء الشباب التواصل بطريقة تحميهم من ابويته العنيفة وقدسيته المزيفة وقيمه المشوهة. فقد اكتشف هذا الشباب ان هناك رابط أساسي بينه وبين هؤلاء الذين اخترعوا لغة الراندوك فى البداية من رحم المعاناة من مجتمع لا يمثلهم ولا يحميهم ولا يعترف بوجودهم. وكذلك معظم الشباب السودانى الان يشعر بعزلة وغربة حقيقية ولذلك رغبة فى التمرد على قيود المجتمع ذو القيم المزيفة، ورغبة منه فى التعبير عن نفسه بعيدا عن رقابة هذا المجتمع، تبنى لغة المنبوذين لأنها أيضا حماية لرغبات هذا الشباب فى عيش حياة صادقة حقيقية ومنفتحة، لا عقد فيها من الجنس الآخر او الرقص او الغناء او الاختلاف فى الرأى وممارسة كل ما يحتقره او لا يسمح به مجتمع لا يعترف بالاشياء فى العلن ولكنه يمارس كل ما يعلن انها محرمات فى الخفاء.
من ناحية أخرى فان صعود لغة الراندوك مثل صعود موسيقى الزنق او قروبات البنات مثل منبرشات او الدعم السريع او اى من اشكال ما يسمى بالثقافة المنحطة حسب تعبير البعض، صعود كل هذه الثقافة المجتمعية الحية ، هى فى الواقع الثورة الحقيقية التى حدثت فى السودان منذ زمن ولم يشعر بها احد، وما يجرى الان من حراك ليس سوي إعلان هذه الثورة وهذا التغيير الذى كان يحدث متسربا بين ثنايا المجتمع ليس بصمت ولكن دون ان يسمى نفسه ثورة. ولكنه الان يعلن نفسه بقوة. حيث ان سقوط الكيزان ليس سوى مظهر جانبى من التغييرات المزلزلة التى فى طريقها للتعبير علنيا عن نفسها فى السودان الذى يتخلق ويعبر عن نفسه الان. فالفنانين الذين يغنون للثورة تسقط بس كل يوم هم نيجرى والربع، فى حين صمت الكبار والمخضرمين. وجيش استخبارات الثورة ليس سوى قروب منبرشات الذي كان يحتقر عضويته كل من هب ودب وكان يعتبر الانتماء له مسبة. الان لغة الراندوك تعبر عن نفسها عبر بيانات الحشد للتظاهرات بشكل إعلان رسمى لها كلغة معترف بها غصبا عن كل منتقديها، لل على أنها لغة الثورة . ان السودان قد تغير بالفعل ولكنه فقط يقوم الان بإجراءات الدفن لكثير من التابوهات والمسلمات القديمة رويدا رويدا. ان الثورة التى تجرى الان لها عنوان مفتوح وهو تسقط بس، حيث انه بعد سقوط النظام سيستمر كما يبدو رفع هذا الشعار لإسقاط الكثير جدا من كل التشوهات والتوهمات والزيف الذى حكم حياة السودانيين وأوردهم المهالك.. وتسقط بس كدة بالوااااضح ما بالدس..
nawayosman@gmail.com

Share on Google Plus

عن المدون gazalysidewalk.com

هنا نبذة عن المدون ""
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 comments:

إرسال تعليق