معتقل سابق فى ثورة ديسمبر يروى تفاصيل الإعتقال والمعتقل ولقاء قوش


محمد حاج علي
موكب الحاج يوسف ..الثلاثاء .. 22 يناير
كنت قد تحركت من المنزل عند الرابعة و النصف عصرا، كتبت وصيتي لصديقي و أرسلتها له على الواتساب كما جرت العادة عند كل المواكب التي كنت جزءا منها.
وصلت وجهتي وكان الوضع هادئا، إلا من تاتشرات و بكاسي الأمن و الشرطة التي تزعق ماكيناتها، في محاولة بائسة لزرع الرعب في قلوب المارة. و أخذوا يمشطون المكان كل هنيهة. كانت أعدادهم غفيرة و من يراهم يظن أن حربا ستندلع للتو.
بعد صلاة المغرب بدأت المناوشات بين الثوار و الكجر. جموع تهتف و تتجمع لدقائق. تركض التاتشرات صوبنا. نركض و نتفرق داخل الأحياء و المنازل. و من على البعد نرى دخانا يتصاعد من لستك حرق في مكان آخر. تتركنا عسس النظام و يهرعون صوبه. كانت مظاهرات متفرقة. إلى أن تجمعت الحشود بكثافة في شارع الكلس، كان حشدا محترما، و أخذنا نهتف.
ثم بعد مدة ليست بالقصيرة بدأ الكر و الفر. وكان البمبان يغطي سماء الشوارع كلها.
عند الساعة الثامنة و عشرون دقيقة كنت مع رفيقي. عند الثامنة و النصف كنت في قبضة الأمنجية. لا أدري كيف حدث هذا. كان الأمر لا يصدق. فجأة تجد نفسك داخل تاتشر مليئ برجال وجوههم مقتضبة و ملامحهم حادة و يستمتعون بالضرب و الشتم و الركل.
أُخِذتُ إلى مكتب الجهاز بالمزدلفة. و طوال الطريق لم يتوقف الضرب و العنف الجسدي و اللفظي.
حينما دلفنا للمبنى هرع صوبنا بقية أفراد الأمن، يحملون الهراوات، يسيل لعابهم من الفريسة التي دخلت وكرهم للتو.
يأخذون نصيبهم بعنف و متعة. ضربات متفرقة على أنحاء الجسد. لا تشعر بشيء، كأن من يتلقى الضربات هو جسد آخر لا ينتمي لك.
بعد التحقيق وجدت نفسي وحيدا، و كل من أتوا بهم معي قد خرجوا.
عند الساعة الثانية صباحا كنت وحيدا في ظهر البوكس، كمجرم حرب.
سلموني لمكاتب الجهاز في القادسية. قالوا لهم:
_
ده شيوعي بيكتب في جريدة الجريدة .. ما تقصروا معاه.
استقبلوني مرة أخرى بالضرب و الشتم.
كان الذعر واضحا في عيونهم، و هذا ما جعلهم يجتهدون ليخفوا هذا الذعر بالعنف الذي يمارسونه ضدنا.
أحدهم كان أكثر عنفا. انتصبت موليا وجهي للحائط كما طلب مني، رافعا يديّ، أنفي يلامس الحائط الإسمنتي. يأخذ رأسي بيده و يقذفه نحو الحائط. يتلذذ بصوت الإرتطام. يعاود الكرّة. شعرت أن رأسي قد انشق لنصفين.
_
شهرين ما نمت مع مرتي يا شيوعي يا ...
_
بتكتب شنو عننا؟ ها ؟
ده انت البتنبذنا و تكضب فينا؟ الليلة بنوريك يا كلب.
بعد ذلك قادوني للتحقيق مرة أخرى. وقبيل الصبح كنا مجموعة من الشباب، ودعونا بالضرب و الركل. ثم كنا في مكاتب الجهاز بموقف شندي.
في الصباح الباكر وجدنا مجموعة أخرى من المعتقلين من أبناء بُري و العباسية و أمبدة. شعرنا براحة عجيبة. جلسنا معهم. إلتفوا حولنا، و أخذوا يبثون الطمأنينة فينا.
بعد لحظات جاء نائب المدير العام لجهاز الأمن و المخابرات، كان يطلق سراح بعض المعتقلين بعد أن يقرأ التحريات.
أطلق سراح شخص من العتقلين لكنه حينما لم يجد صديقه الذي اعتقل معه. رفع يده و قال:
_
أنا اتقبضت مع صحبي يا سعادتك، و ما حقدر أخليه و أطلع.
_
لو ما داير تطلع قوم و أمشي ليه.
ذهب بلا تردد و جلس قرب صديقه و هو يبتسم. لم يصدق المسؤول. و قال :
_
حيرتني معاك والله .. يلا خلاص سوق صاحبك و قوموا تعالوا انتو الإتنين.
بعد هذا الحدث امتلأت قلوبنا بالشجاعة و الزهو. و كل الحاضرين لم يخفوا إعجابهم بموقف الرجل و تشبثه بصديقه .
و بعد الإفطار ، حققوا معنا مرة أخرى. و استمر التحقيق حتى صلاة العصر.
الرفاق كانوا رائعين بحق، و ما يمنع استمرارية الكلام هو عدم قدرة الجسد على الصمود. حيث بدأت تظهر الكدمات و الدماء. و كان جلوسنا على الانترلوك يزيد من الألم. خمس دقائق نأخذها في التململ و في محاولة الجلوس أو تعديل الوضع. و كان الجسد قد بدأ يستشري فيه الألم.
الأمسيات كانت أكثر قساوة ونحن مضجعين على أرضية الحوش الصلبة. حيث البرد و أسراب الناموس الضخمة التي تتغذى من دمائنا. لكن بالرغم من كل هذا حينما يسمحوا لنا بالنوم، نضجع على الانترلوك، لا نأبه لا بالناموس ولا بالبرد و ننام كأننا لم نغمض أعيننا منذ دهر.
بعد ثلاثة أيام و في مساء الخميس اقتادونا لمبنى يسمونه الفندق. كنا ظننا أن الضرب قد انتهى. لكن مرة أخرى أخذوا يضربوننا، كانت حفلة رعب حقيقية. سياط على أنحاء متفرقة من الجسد .. على الرأس، الظهر، المؤخرة، القدمين، والرقبة...استمر الحفل حتى أنصاف الليالي. قيدونا بالكلبشات كمجرمين. حملوا أسلحتهم. أخذوا يهددون الجميع. و كانوا في غاية الوحشية.
كانت إصابات البعض بالغة. و على سبيل المثال لا الحصر:
شخص تنزف أذنه اليمنى بلا توقف نتيجة الضرب. شخص أصيب بشق على قدمه اليسرى ولا يستطيع أن يضعها على الأرض جراء صعقه بالكهرباء و ركلات البوت القوية.
شخص يحمل يده اليسرى و يسندها بيمناه و كان يتألم بشدة ولم أتبين إن كانت مجرد كدمات أم شق. شخص تورمت عينه اليسرى و كانت محتقنة بالدماء السوداء ولا يرى بها جيدا...
عند صلاة الفجر كنا في سجن الهدى. و الحقيقة رغم الألم النفسي الذي عايشناه طوال فترة وجودنا في الفندق و طوال ساعات الطريق المؤلمة، إلا أن رؤية الشرطة كان حدثا مبهجا، و أزال الوجوم الذي كان يرتسم على وجوه الجميع.
قسمونا على عنبرين. و قد كان الوضع رائعا هناك. كنا نغني عند الأمسيات، و كنا محظوظين بوجود شخصين يجيدان الغناء. و كنا نقرأ أشعار حميد و محجوب شريف. و نتبادل الحكايا، و نطلق الخيال لما سيؤول إليه وضع الوطن قريبا.
كان الرفاق واعين بقضيتهم، صامدين، لا يفكرون بأنفسهم، و كانوا مستعدين أن يضحوا بكل شيء لأجل الوطن.
و كل ما كان يشغل تفكيرنا و يرهقه هو انقطاعنا عن العالم الخارجي.
_
كيف حال الشارع؟
_
ما الجديد؟
ولا أحد يجيب بصدق.
بعد خمسة أيام في سجن الهدى جاءنا صلاح قوش و حاشيته. تناقشنا في عدة محاور و كان الرفاق يتحدثون بلا خوف. رغم تحذير أفراده لنا.
تحدثنا عن فظائع أفراده و انتهاكاتهم، عن فشل حكومته و سوء الإدارة و الفساد الذي أنهك الوطن، و عن الكثير من النقاط المحورية. استمر الحديث زهاء الثلاثة ساعات. و بعدها كنا أحرارا كما ينبغي بعد إعتقال دام لثمانية أيام في سبيل حلم يستحق العناء.

Share on Google Plus

عن المدون gazalysidewalk.com

هنا نبذة عن المدون ""
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 comments:

إرسال تعليق