بقلم عثمان نواى
من اهم ملامح التنوع الثقافى والاثني هو التنوع اللغوى. ومن اهم
أيضا نقاط التمييز والاستبعاد التى تشعر بها العديد من الشعوب السودانية هو عدم
وجود لغاتها متمثلة فى الكيانات والمؤسسات التى تعبر عنها من خلال الدولة. سواء
ذلك الإعلام او مناهج التعليم او كل مساحات التعبير الثقافى والمجتمعى والسياسي
،بما فى ذلك المجتمع المدنى والهيئات الدينية والاحزاب السياسية والمنظمات الأهلية
وغيره. فسياج اللغة الأحادية لم يحدث له تفكيك يعبر عن تنوع السودان اللغوى على
الاطلاق.
وقد تحدث كثيرون عن ان فرض لغة واحدة على مجموعات تتحدث اكثر من
٥٠٠ لغة كان احد اشكال العنف والذى وصفه البعض انه يصل الى ابادة ثقافية. الكاتب
والباحث الأمريكي فى شئون النزاعات مايكل مان صنف الحرب الأهلية فى جنوب السودان
من ضمن الصراعات النادرة التى كان أحد اهم البواعث لها هو فرض لغة على مجموعات
اثنية لا تتحدث بها. اذن من المؤكد ان العنف الممنهج بسبب فرض لغة على مجاميع
سكانية متنوعة هو أحد اكثر أشكال الاقصاء من حقوق المواطنة. ولكن من المهم أيضا
النظر الى الأمور من جانب اخر. حيث ان السودان فى دولته المركزية لم يفهم مقدار
الخسائر من كل عمليات الفرض التعسفية للغة واحدة. فقد خسرت الساحة الثقافية
السودانية تنوع وغنى لغوى ضخم. وارث كبير من الثقافات والحكمة الشعبية المتنقلة
عبر التاريخ. بل فقدت القدرة على التأريخ للمجموعات السكانية الواسعة التى لم تحول
لغاتها الى رموز مكتوبة. وبالتالى حفظ التاريخ فى شكل شفاهى متنتقل عبر صدور
الرجال والنساء. لكن الانقطاع اللغوى بين الاجيال بسبب التعليم القسرى للغة واحدة
وتبنى الدولة لهذه اللغة كوسيلة وحيدة للتعليم والترقى المهنى، شكّل مهدد كبير
ومستمر لازدهار هذه اللغات وتوثيق ثقافات بأكملها كجزء من التاريخ والتراث
السودانى والانسانى.
لكن من المبهج ان احدى وسائل المقاومة العصية على الانكسار وحب
الشعوب السودانية الناطقة بغير العربية للحرية من اقصى الشمال الى الشرق الى الغرب
الى الجنوب، ان هذه الشعوب رغم القمع الممنهج منذ الاستقلال ،الا انها ظلت تحافظ
على لغاتها حية، وقد لعبت موسيقاها دور كبير فى هذه العملية. ان التنوع اللغوى هو
محمول ثقافى محمل ليس فقط بكلمات لغة أخرى، بل بتاريخ شعوب وحكمتها عبر السنين.
ومن المحمود ان الثورة اللغوية التى قاتل لأجلها الكثيرون طويلا هى من هموم هذه
الثورة المفاهيمية التى تجرى الان. حيث انه قام البعض بترجمة شعار تسقط بس الى بعض
اللغات السودانية، وهذا ربما مبشر على طريق أحداث الثورة اللغوية التى تأخرت كثيرا
فى السودان. حيث ان اللغات السودانية التى تم اهمالها طويلا، انما تحمل داخلها
تاريخ السودان الذى لم يكتب. بكل الحقائق المرة والشجاعه الغير مسبوقة. بكل تاريخ
الرق الاليم وتاريخ مقاومة الناس له، تاريخ الانتفاضات الكثيرة على الاستعمار
التركية والانجليزي فى جبال النوبة واحراش الجنوب ودارفور وشرق السودان. أبطال كثر
حرمت اجيال كثيرة من السماع ببطولاتهم، ومن الشعور بالفخر بالانتماء لوطن جمعهم
معهم، فقط لان قصصهم مطوية فى لغات لم تسمح لها الدولة الرسمية ان تعبر عن نفسها
وان تسطر وجودها بين اصوات الوطن. ان الثورة التى تتخلق الان ، هى ليست فقط وليدة
احلام مستقبلية بل هى أيضا وليدة أخطاء تاريخية حان الاوان لتصحيحها. وحان الوقت
لجرد حساب الخسائر من كل هذه الأحادية التى سبغت وطنا كاملا بلون الدم والدموع
فقط، بينما كان هناك سيناريو اكثر جمالا، تم قمعه بقوة. سيناريو دولة عديدة
الألوان واللغات والموسيقى وقادرة على صناعة قوة حقيقية على مستوى السياسة
والاقتصاد والثقافة. وقد كان الانجليز كثيرا ما يشبهون ثراء السودان الثقافى
وتنوعه بالهند، ولكن الفرق الكبير بين السودان والهند هو ان الأخيرة احتضنت تنوعها
،بينما السودان نبذه. فالان السينما في بوليود يتم ترجمة ودبلجة كل فيلم فيها
لاكثر من خمس لغات وقت صدوره حتى يحقق النجاح عبر البلاد ،ويتحدث لكل الناس
بلغتهم. وهذا جزء أيضا من التنمية الاقتصادية، فانظر الى كمية الوظائف لكل هؤلاء
الذين يصنعون هذا التواصل عبر الترجمة والدبلجة ولذلك فإن التنوع اللغوى هو ثروة
حقيقية، وقد تأخر استغلالها كثيرا.
nawayosman@gmail.com
0 comments:
إرسال تعليق