بقلم عثمان نواى
من الصعب جدا النظر الى ما يحدث الان فى الشارع السودانى دون
العودة الى جذور الأزمات فى السودان وهى مسألة الإقصاء والاستبعاد المزمنة. تلك
الأزمة التى أصابت الشعب السودانى كافة بكل أطيافه وان تباينت الدرجات. ولازالت
مسألة الحكم فى السودان مرتبطة باليات الإقصاء وليس باليات المشاركة. فعقلية الحكم
التى سيطرت على السودان منذ نشوءه كدولة شبه متماسكة جغرافيا - وان كانت دوما
متشظية وجدانيا- كانت دوما عقلية احتكارية سلطوية ذات بنية متخلفة معتمدة على فكرة
رب الأسرة او كبير العيلة وشيخ الحلة وراس الجماعة . تلك الفكرة التى تتجلى من رأس
المية وشيخ القبيلة والطريقة وحتى الفة الفصل ووصلت الى اول الدفعة و امير الجماعة
عند الإسلاميين . فى عمليات إعادة انتاج متفاوتة حسب الاحتياج الزمانى والمكانى
وتطور المعطيات والظروف التى لم يتبعها تطور مماثل فى العقليات. وعليه فإن السلطة
المركزية المشخصنة فى الأفراد هى إحدى ركائز المجتمع السودانى التى تربطه بالوضع
الاجتماعى القبلى القطيعى المتخلف وتمنع عنه فرص الانتقال الى مفهوم السلطة
والحوكمة باعتبارها عملية إدارة مصالح المجتمع عبر مسؤولية مباشرة يتم المحاسبة
عليها من قبل أعضاء المجتمع نفسه. وحينها لا تصبح السلطة عبارة عن عملية سيطرة على
المجتمع بل عملية إدارة لمصالح المجتمع ،حيث تخضع تلك الإدارة لعملية رقابة دائمة
من افراد المجتمع أصحاب المصلحة أنفسهم. وبالتالى لا تصبح السلطة سيطرة بل مجرد
صلاحيات محدودة لاداء مهام معينة.
ولأن السلطة لازالت محتكرة لفئات معينة ولأنها لازالت وسيلة سيطرة
وهيمنة على المجتمع السودانى، وليست وسيلة إدارة ورعاية مصالحه بتكليف وتفويض
محدود من الشعب، فان التفاوض والاتفاقات وحتى محاولات إجهاض الثورة التى تجرى الان
نراها كلها تنطلق من هذه المعضلة الجوهرية لمفهوم وممارسة السلطة فى السودان طوال
تاريخه . ان مدنية الحكم التى يطالب بها الشعب السودانى ربما تمت ترجمتها بشكل
سياسي لاغراض الدعاية فى اطار ضيق وهو المعنى المضاد للعسكرة للدولة او حكم الجيش
مقابل حكم المدنيين. لكن الحقيقة ان مدنية الدولة فى معناها المتعلق بشكل الحكم
وإدارة الدولة هى عملية أكثر تعقيدا ويعلم ذلك جيدا العسكر و المدنيين الذين
يتفاوضون الان لاقتسام الهيمنة على السلطة فيما بينهم. بل ان هذا المعنى الاعمق
لمدنية الدولة وهو ما يحفز الاتفاق الذى يجرى الاعداد له رغم رفض الشعب له بشكل
واسع.
ان الحكم المدنى يعنى بشكل عام ان يتمتع المواطنين بكافة الحقوق
المدنية او civil rights. وهى
الحقوق المتعلقة بحرية الأفراد وفى إعطائهم كافة الحقوق السياسية والاقتصادية التى
تضمن ان يكون الفرد ليس مجرد صوت انتخابى بل انه صاحب الرأى فى اختيار من يحقق له
الحياة الكريمة من مستوى الأحياء والقرى حتى رئاسة الدولة. يتبع هذه الحقوق عملية
فك الارتباط بين الدولة والحكام. بمعنى ان صاحب المنصب المعين لا يتمتع بالصلاحيات
فى شخصه ولكن عبر منصبه الذى يخضع فيه للرقابة والمحاسبة بالقانون حيث لا حصانات
تمنع اى مواطن مقاضاة صاحب اى منصب. كما ان الأداء والقدرة على تحقيق مطالب ومصالح
المجتمع هى الفيصل الرئيس فى بقاء شخص ما فى منصبه. وليس قبيلته او دينه او طائفته
او ثروته او حزبه او رتبته العسكرية او حتى تاريخه النضالى. وحينها لن تكون السلطة
وسيلة للكسب او الترقى او الفساد بفجر ما انها مسؤولية يجب ان يمسك بها فقط
القادرون على أداء المهام الموكلة إليهم من قبل الشعب الذى اختارهم. واذا كان
مفهوم السلطة فى هذا الإطار فإنه لن تجد ابدا كل هذا التهافت على خدمة المجتمع
وتحمل مسؤوليات تحقيق مطالبه ومصالحه. والحقيقة ان الوضع السودانى الان اقتصاديا
واجتماعيا وامنيا هو تحدى كبير لاى شخص سيتحمل مسؤولية البلاد. فهل كل هؤلاء
المتهافتين على السلطة والاتفاق على قسمتها مستعدين لتحمل هذه المسؤولية ام انهم
يسعون فقط الى سلطات سيطرة وليس سلطات إدارة مصالح الشعب. ؟
وعليه فإن فرصة السودانيين الأخيرة فى بناء دولة مدنية ديمقراطية
حديثة والتخلص من كل أزمات الماضي تبدأ من تمسكهم بالمدنية الكاملة للدولة. وعبر
الوعى الكلى بمعنى هذه المدنية. فالمعركة مع العسكر والكيزان اثبتت الايام الماضية
ومن خلال انبطاح النخب السياسية انها معركة مرحلية. وان المعركة يحب ان تكون
مستمرة فى انتزاع الحقوق والعدالة بشكل كامل اى بمعنى العدالة الاجتماعية لكل
السودانيين وليس فقط للشهداء. ولذلك فإن الثورة ستظل مستمرة ما دام الوعى متقدما
على كل محاولات الالتفاف على مطالب الثوار فى دولتهم المدنية.
ولذلك تظل لجان الأحياء ومجموعات المقاومة ومجموعات المتطوعين
الشباب والكيانات المطلبية هى النواة القوية للمجتمع المدنى الذى يحرس الدولة
المدنية. فبدون هذه التنظيمات الاجتماعية من لجان أحياء وتنظيمات نقابية واجسام
مطلبية سواء لمناطق او مجموعات اثنية او نسوية او شبابية او طلابية تمثل مطالب
واحلام كل السودانيين وتحرس تلك المطالبة بالدولة المدنية فى مقابل كل الاعيب
السياسة فإن الدولة المدنية لن يكون لها اساس تستند عليه. ولذلك فإن المرحلة
المقبلة سواء تم الاتفاق او لم يتم يجب ان تكون مرحلة بناء الكيانات المدنية والمجموعات
الأهلية والتى هى الحامى الشعبى لمكتسبات الثورة.
nawayosman@gmail.com
nawayosman@gmail.com
0 comments:
إرسال تعليق