المجلس التشريعي : بين فرص المساومة التاريخية ومخاطر الهيمنة الاثنية الاحادية


عثمان نواي
يقول رومل : ( ان السلطة تقتل, ولكن السلطة المطلقة هى قاتلة بالتاكيد!)
ان انكار ان الهيمنة الاثنية العروبية تتحمل المسؤولية عن الازمة السودانية هو مجرد هروب من الواقع. حيث ان عملية التعريب والاستعراب التى فرضتها الدولة السودانية ظلت هى المهيمنة لدرجة انها اصبحت امرا طبيعيا وعاديا , خاصة بالنسبة للمنتمين للاثنيات المهيمنة , وخاصة النخب, حيث ان انعدام قوانين فصل عنصرى, تمنع الاثنيات الاخرى بشكل واضح من ممارسة حقوق المشاركة السياسية او حصولها على التعليم والعمل والترقي الاجتماعى , تجعل هذه النخب تصر على انه ليس هناك هيمنة عروبية واحادية على الدولة. وهذا الوضع شبيه للغاية بالحالة الامريكية من حيث سيطرة البيض الخفية على الدولة هناك رغم عدم وجود قوانين فصل عنصرى واضح منذ الستينيات. يقول جورج ليبزبتز البروفيسور فى الدراسات الاثنية فى كتابه” الاستثمار التملكى فى البياض”  :( ان البياض موجود فى كل مكان فى الثقافة الامريكية, ولكن يصعب جدا رؤيته. ويقول ريتشارد داير ان “ القوة البيضاء تقوم بتامين سيطرتها بان تبدو وكانها لا شىء محدد بالضبط” اى وكانها فئة غير محددة , فى مقابلها يتم هيكلة بقية الاختلافات . فالبياض او القوة البيضاء لا تحتاج ابدا للحديث مستخدمة اسمها, وليس عليها ابدا الاعتراف بدورها كاساس لتنظيم العلاقات الاجتماعية والثقافية.) ونجد ان هذا التحليل ينطبق بشكل كبير على الهيمنة الاثنية العروبية على السودان, وعدم الاعتراف بهيمنة هذه الاثنية هو فى الحقيقة الدليل الاكبر على هيمنتها المطلقة, الى درجة انها تتعالى حتى على تعريف نفسها او الاعتراف بهيمنتها, حيث ان عدم الاعتراف هذا هو ايضا احدى اهم اليات استمرار الهيمنة والسيطرة الخفية , و التحكم فى الأمور من العمق.
ان أزمة التمثيل السياسي التى تعانى منها الان الساحة السياسية السودانية وحالة ازدواجية المعايير فيما يتعلق بمشاركة القوى الثورية المسلحة وأهل مناطق النزاعات فى السلطة وجدل المحاصصة الذى لا يجد له سند، حيث أن القوى التى ترفض المحاصصة هى ذاتها التى ابتدرتها ،لكن يبدو ان الالتفاف على الثورة ومحاولة استمرار الهيمنة الأحادية على السلطة من قبل بعض المجموعات والنخب والشللليات السياسية من الاثنيات المهيمنة تاريخيا تصر على استمرار ذهنية الإقصاء والهيمنة. حيث لا يعقل باى حال ان يتم تشكيل مجلس تشريعي ما بعد الثورة بينما لا يتم تمثيل قوى المقاومة المسلحة فيه وكذلك سكان مناطق النزاعات الذين تحملوا نضالا طويلا بشجاعتهم التى كسرت عظم النظام وهددت وجوده وادانته دوليا. فكيف يتم تمثيل احزاب لا يتعدى اعضاؤها أصابع اليد الواحدة بينما لا يتم تمثيل حركات مسلحة تسيطر على مناطق يقطنها مئات آلاف السكان مثلما هو حال سكان كاودا على سبيل. فمن سيمثل قرابة مليون مواطن فى مناطق الحركة الشعبية فى كاودا ؟ ومن سيمثل عشرات الالاف من النازحين فى فى معسكرات تشاد ومن سيمثل عشرات آلاف السكان فى جبل مرة؟ وان كانت عملية انشاء المجلس التشريعي سوف تتجاهل وجود كل هؤلاء فلماذا قامت الثورة وما الذى تغير؟ ان تجاهل وجود ملايين المواطنين السودانيين داخل الوطن والمشردين قصريا خارجه، هو السبب الذى أدى الى فصل ثلث السودان من قبل وان يكون فى السودان حرب أهلية الأطول فى أفريقيا واكبر ابادة جماعية فى القرن الواحد وعشرين.
ان الفترة الانتقالية الحالية تقع تحت تهديد كبير اذا لم يتم تغيير كلى فى عقلية الهيمنة الاثنية وان تعى الأطراف النخبوية الحاكمة تاريخيا التى ما زالت تراهن على تلك الهيمنة لتحافظ على سلطاتها وامتيازاتها، عليها ان تعلم ان الحراك الاجتماعى تجاوز كثير من المفاهيم التى كانت تدعم وتصنع قاعدة شعبية لتلك التوجهات المهيمنة. حيث لم يعد وهم الدولة العربية الإسلامية يشكل خطاب سياسي قابل للبيع خاصة بعد تجربة الإسلاميين المريرة. ولذلك فإن الفرصة الأخيرة الان في تاريخ السودان الحديث سانحة للقيام بالمساومة التاريخية الأخيرة التى تنقذ البلاد من الحرب الأهلية الشاملة. وعلى صقور الهيمنة الاثنية ان يترجلوا الان.
يضيف ليبزتز ملاحظة هامة حول الواقع الامريكى قائلا:( فى مجتمعنا فى الوقت الحاضر , فان الوعى الدقيق باللحظة الراهنة, يتطلب ان نتفهم الوجود والعواقب المدمرة للهوية البيضاء.) , هذا مع اهمية توضيح ان البروفيسور ليبزتز نفسه هو من البيض. وليس هناك ابلغ من هذه العبارة الاخيرة لهذا العالم والناشط الامريكي فى الحقوق المدنية والمساواة للتعبير عن الحاجة لهذا الوعي “ الدقيق باللحظة الراهنة” الذى يتطلبه واقعنا السودانى , اى الادراك العميق والاعتراف بان الهوية العروبية للدولة السوادنية بشكل احادى انما تؤدى الى عواقب “مدمرة” لنا جميعا كسودانيين من مختلف الاثنيات بما فى ذلك الاثنية العربية نفسها. ومن هذا المنطلق تبدأ عملية التاسيس للمساومة التاريخية الضرورية للغاية اذا ما كان لدى النخب من الاثنية المهيمنة بكل تباينها السياسي والفكرى وعى دقيق باللحظة الراهنة واذا كانت قادرة على ممارسة الحضور العقلى الذى يتطلب ايضا تصورا للمستقبل بشكل مجرد. وهذا الحضور العقلى المطلوب من النخب فى المركز هو الذى يدفع نحو الادراك بكارثية سيطرة الهوية العربية الاحادية على الدولة السودانية وضرورة تقديم تنازلات رئيسية تودى الى تفكيك هذه الهيمنة. وتبدا هذه التنازلات عمليا الان بضمان الشراكة الحقيقية والعادلة فى بناء الدولة السودانية فى هذه الفترة الانتقالية. وهذا ما يجب أن يبدأ الان بالجدية فى اتخاذ الإجراءات نحو السلام وأيضا ضمان المشاركة فى المحلس التشريعى وكل مستويات السلطة. واذا تم تفويت هذه الفرصة فإن السودان مهدد بشكل اكبر من اى وقت مضى بالانزلاق الى دائرة جهنمية لن تكون هذه المرة محصورة فى مناطق معينة بل ستعم كل السودان. وعلى هذه النخبة المتشبثة بالسلطة ان تقرر ما اذا كانت مستعدة لتحمل تبعات ما تقود الوطن اليه من محرقة كما فعلت خلال الستين عاما الماضية، ولكن هذه المرة المحرقة لن تبقى على احد.
nawayosman@gmail.com

Share on Google Plus

عن المدون gazalysidewalk.com

هنا نبذة عن المدون ""
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 comments:

إرسال تعليق