جريدة العرب ا للندنية : أسلمة في الشعارات فقط.. حلم الإسلاميين الوحيد إحكام القبضة على السلطة بأي صيغة


مختار الدبابي كاتب وصحافي تونسي 


الإسلاميون.. ترسانة فقهية تسقط أمام سطوة السلطة
بعد أكثر من سبعين عاما من الوعود بالتغيير الراديكالي لواقع المسلمين، نزلت الحركات الإسلامية ذات الخلفية الإخوانية إلى أرض الواقع لتجد أن كل تلك الوعود لا تقدر أن تبني تجربة بأبعاد ثقافية كبرى، فاختارت أن تقصر جهودها على هدف وحيد هو القبض على السلطة في دول عربية وإسلامية والانطلاق منها إلى بناء النموذج الافتراضي بالقوة وتطويع الناس والواقع له. فلماذا عجزت مفاهيم الإسلاميين وشعاراتهم الكبرى عن التأسيس؟ ولماذا أغوتهم السلطة عن تحقيق المجتمع المثالي؟
 ظل الإسلاميون منذ عصر النهضة يبشرون بتقديم بدائل تعيد المجد للأمة ككل، أو لكل قطر على حدة، باستعادة النموذج الرباني وتطبيق الشريعة. لكن هذا النزوع لإحياء الماضي وتضخيم بدائله وقدرته على حل كل الأزمات سرعان ما يتقلص ليصبح على يد الحركات والأحزاب التي قاربت الحكم بشكل من الأشكال، مجرد ثيمة واحدة، وهي الوصول إلى السلطة.
ويبرر الإسلاميون الرغبة الجامحة في السلطة كونها تحقق بقوة السلاح ما تعجز عنه الدعوة بالخطاب والوعود في استبطان واضح أن الناس لا تقبل الحكم إلا بالقوة، وهذا ما يبرر عمليا البراغماتية التي تبديها حركات إسلامية، أغلبها ذو خلفية إخوانية، لأجل التمكن من الحكم ثم الانقلاب على كل وعودها، مثلما حدث مع إخوان السودان، أحد أكبر الفروع الإخوانية من حيث القوة والفكرة وفرص الحكم.
وبالتأكيد، فإن السؤال المهم الذي يطرح، هنا، أين تذهب الترسانة الفقهية والضمانات الأخلاقية التي يرفعها الإسلاميون، والتي مكنتهم من أن يكونوا في الواجهة، سياسيا وأمنيا واجتماعيا،  منذ 1928 تاريخ تشكيل جماعة الإخوان، إلى حد اللحظة، حيث نجحت حركة النهضة الإسلامية في أن تتبوّأ السلطة في تونس؟
ويضع الإسلاميون السلطة هدفا أول لهم بالرغم مما يظهره بعض قياداتهم ومنظريهم من ميل إلى أن التمكين ليس فقط القبض على السلطة، ولكن هو بناء أرضية ثقافية وسياسية ناضجة قابلة للحكم. واستعجال السلطة يتطلب أساليب ووسائل من جنسه، وهو ما يفسر التجاء الإسلاميين إلى الانقلابات العسكرية التي فشل أغلبها، أو ركوب الديمقراطية كوسيلة اضطرارية للحكم ليجدوا لاحقا أنهم لا يتحملونها بسبب انزياحاتها “العلمانية” وكونها تتعارض مع الشورى التي تعني تجميع “علماء وفقهاء” ليباركوا خطط “الأمير”. وحتى وإن قدموا أفكارا جزئية تتعارض مع خططه فمن حقه القفز عليها لكونها “شورى غير ملزمة”، وهو المرجع الذي ما بعده مرجع سوى النص الديني الذي تتقاذفه نوايا التجديد المتسرعة.

ورطة التجديد

لا يغامر الإسلاميون بالانزلاق إلى لعبة التجديد، ولكنهم يصدرون “فتاوى” لإسكات الخصوم، وإظهار أنهم يتبنون المواثيق والقيم الكونية في مسعى لاسترضاء الغرب والحصول على اعتراف بكونهم ليسوا مختلفين مع النسق العالمي لـ”القيم الوضعية” التي ظلوا لعقود ينقدونها في الكتب المرجعية لسيد ومحمد قطب وأبوالأعلى المودودي.
والورطة، هنا، لا تخص الباحثين في النصوص الدينية بمختلف مستوياتها، ولكن المقصود ورطة الإسلام السياسي الذي يبحث عن اجتهاد على “المقاس” لإظهار أنه متمسك بالدين من ناحية حرصه على استقطاب المريدين أو إغواء الناخبين خاصة في ما بعد ثورات 2011 وفورة نجاحات الفروع الإخوانية عبر صناديق الاقتراع قبل أن تتراجع لاعتبارات مختلفة.
كما يسعى الإسلام السياسي، المسكون بالبحث عن المشروعية، من جهة ثانية لإظهار نفسه على أنه إسلام ديمقراطي خفيف لاسترضاء الغرب الذي بيده السماح للإسلاميين بالحكم أم لا، مثلما يجري في تونس، حيث بات الغرب ينظر بعين الرضا إلى حركة النهضة التي قصقصت أجنحة الديني في هويتها وتطلق التصريحات المختلفة الداعمة لخيارات قيمية مشروطة قبل أي قبول.
وورطة التجديد لا تحرج حركة سياسية براغماتية تلبس لبوس الديني مثل “النهضة”، بل تضغط على أحمد الريسوني رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، المؤتمن على هوية التيار الإسلامي الإخواني الأوسع، حين قال في فبراير 2019 إن “نحو 90 في المئة من الفقه الإسلامي يجب أن يتغير، لأن زماننا طرح نوازل (قضايا فقهية) ووقائع جديدة، جعلت الفقه القديم ينحصر في حيز ضيق”.
ورأى الريسوني في موقف صادم أن “التجديد يجب أن يشمل العلوم الشرعية أيضا، حتى تتلاءم مع هذا الزمان”.
والورطة الحقيقية أن الإسلاميين حين يصطدمون بـ”إكراهات الواقع” يصبح همهم الأول هو البحث عن مصالحة هذا الواقع والاندماج فيه على مستوى الخطاب والسلوك، وهو وجه آخر من وجوه التقية التي تنظر إلى هدف واحد، هو هدف القبض على السلطة.
هل اعتراف الريسوني هو اعتراف بالعجز عن إيجاد إجابات اجتهادية من النص وتاريخ التأويل الفقهي الإسلامي، أم هو رسالة للفروع الإخوانية التي توجه بالسلطة مثل تونس والمغرب، أو التي تتموقع في مكان متقدم مثل الأردن واليمن، وحركات جنوب شرق آسيا، بأن تصرفوا وفق ما ترونه مناسبا، واجتهدوا في تأمين اندماجكم في الواقع، ولو بفتاوى صادمة مثل التطبيع مع البنوك الربوية، أو التماهي مع مدونة أسرة عصرية وفق المواثيق الدولية، وإظهار “تفهم” لقضية المثلية؟

شريعة تقفز على الواقع

في العقود الماضية يظهر الإسلاميون حماسا كبيرا لتطبيق الشريعة كونها تحمل كل الحلول، لكن حين ينزلون إلى أرض الواقع ويبحثون عن تنزيل أحكامها لا يجدون منها سوى الجانب العقابي، أي قص يد السارق وجلد الزاني، أو تنفيذ مهمة الحسبة بما تعنيه من إذلال الناس والتعدي على حرياتهم الشخصية، لتبدو الشريعة في عرف الإسلام السياسي كأنما جاءت فقط للانتقام والتشفي وليست مشروعا للعدل والإنصاف.
وتستوي في هذا الحركاتُ الإسلامية المغالية في التنفيذ الحرفي للنص مثل القاعدة وداعش والسلفية وحزب التحرير أو الحركات البراغماتية المناورة مثل الإخوان المسلمين. ورأينا كيف تشابهت مراحل الحكم الإسلامي المتشدد (بأنواعه) في أفغانستان (مع القاعدة وطالبان)، وفي الفلبين (جماعة مورو ثم أبوسياف)، وداعش في العراق سوريا، وأيضا والأهم تجربة الإخوان في السودان.
وهرب إخوان السودان بالأسلمة والشريعة إلى الحكم العسكري، أسلمة في الشعار لكن على الأرض باتت تلك الأسلمة عاجزة عن التفاعل مع واقعها لأن الشريعة لم تكن سوى مجرد شعارات متوارثة، فيما هي في واقع الأمر قراءة تاريخية للنص القرآني والنبوي، وتم تأويلهما في عصور سابقة، وتريد الحركات الإسلامية ترجمة تلك القراءة التأويلية على واقع جديد مناقض بشكل جذري.
كان الإسلاميون في السودان، بدرجة أولى وفي المناطق التي حكموها ككل، ينظرون إلى مجتمعاتهم من فوق، ويعتقدون أن هوياتها وخصوصياتها وتنوعاتها ليست سوى خروج عن الشريعة ولا بد من تصويبها، فكان أن وجدوا أنفسهم في عزلة، واضطروا إلى العنف خيارا وحيدا لفرض أفكارهم على الناس.
والصورة الصارخة لتجربة الشريعة كقراءة تاريخية مسقطة هو التجاء إخوان السودان إلى الانقلاب العسكري والمضي في سجن وإعدام خصومهم الفكريين وعلى رأسهم محمود محمد طه الذي أعدم في يناير 1985 لأنه يطرح أسئلة تجديد من داخل الفضاء الإسلامي، وبات إسلاميو اليوم من الفضاء الإخواني يطرحونها بأكثر إلحاحا بسبب “إكراهات الواقع”.
ومع ثورات “الربيع العربي” بادرت فروع من الإخوان المسلمين إلى التخلي عن هويتها الأصولية التي تعتقد أن النصوص التي بنيت عليها الشريعة في أغلبها قطعية الدلالة ويجب تنفيذها، وهربت إلى المقاصدية التي تسمح لهم بإدارة الظهر إلى الشريعة التي لا تفضي سوى إلى تنفيذ عقوبات باتت لا تجد من يدافع عنها حتى داخل التنظيمات الإسلامية لتعارضها مع الواقع والقيم الكونية.

الدولة والغنيمة

تحاصر الإسلاميين معضلة كبيرة أخرى، وهي التعاطي مع الدولة بمفهومها العصري، وقد ناضلوا طويلا لكسرها وإعادة بناء الخلافة مكانها. ورغم الاعتراف الاضطراري بالدولة والعمل ضمن آلياتها وقوانينها، فإن أحزاب الإسلاميين لا تزال ممزقة بين الحلم بإقامة أمة/ خلافة وما تحمله هذه الثنائية من محاميل فكرية وعقائدية وشعورية وبين دولة عصرية لا يشعرون بالانتماء إليها فما بالنا بالحماس لها.
ولحل هذه العقدة وجد الإسلاميون (والأمر ينطبق أيضا على الحركات الأخرى العابرة لمفهوم الدول مثل اليسارية والقومية) أن الطريق الأسلم هو التعاطي مع الدولة كأمر واقع والسعي لاختراقها والسيطرة عليها، أي تحويلها إلى غنيمة، وهو ما بات يعرف اصطلاحا بالأخونة.
لقد حطمت الدولة الوطنية (القطْرية) أحلام الإسلاميين، وبات حلمهم الوحيد إحكام القبضة على السلطة فيها بأي صيغة وسواء من بوابة الانقلاب العسكري أو من بوابة ديمقراطية شكلانية يتسللون من خلالها إلى مختلف المؤسسات واستيعابها والسيطرة عليها لإظهار أنهم الأجدر بهذه الدولة كحق تاريخي، وبانتظار لحظة مستقبلية يتم فيها إلحاق هذه الدولة بالخلافة.
ويجاهد الإسلاميون أنفسهم لإظهار ولائهم لهذه الدولة، لكن يظل يسكنهم النموذج الذي يقوم على استنساخ التنظيم السري، الذي يقوم على علاقة أفقية بين شعب من المريدين (رعية عليها السمع والطاعة) وبين الأمير أو الحاكم “العادل المستبد”، الذي يسعى لتحقيق عدل وفق مزاجه لكن لا يسمح لأحد بأن يغير ذلك المزاج بأفكار مناقضة وإظهارها للنور بزعم حق الاختلاف وحرية التعبير.
إن استبطان النموذج القديم الذي يُعطى للأمير، أو قائد التنظيم تحت أي مسمى آخر، في إدارة الدولة، سيقود حتما إلى تثبيت الاستبداد والحكم المطلق باسم الدين ويهدد بتذويب مؤسسات الدولة وتقاليد إدارة الاختلاف سواء في البرلمانات أو في وسائل الإعلام. ولهذا يظل الإسلاميون يثيرون الشكوك والمخاوف لدى خصومهم لغياب تجارب سابقة تثبت أن المجتمع القائم على الدين يمكن أن ينتقل إلى مجتمع منفتح وقابل للتعدد.
ونقصد، هنا بالذات، المجتمعات الصغيرة التي بناها الإسلاميون في فترة المواجهة مع الأنظمة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، مجتمعات التنظيمات السرية التي تؤمن بأنها الفرقة الناجية، وتعيش العزلة والانغلاق، وتعتقد أن من حقها سيادة الآخرين في “مجتمعات جاهلة” على حسب فتاوى سيد قطب التي تضمنها كتاب “معالم في الطريق”.
سيحتاج الإسلاميون إلى وقت كبير كي يختبروا قدرتهم على التخلص من الرؤية الاستعلائية التي تأسست بسبب فكرة “الحاكمية” لأبي الأعلى المودودي وسيد قطب، والتي تسعى لتطبيق “المنهج الرباني” على المجتمعات الكافرة.
فهل يقدرون فعلا على التخلص من إرث الماضي الساكن فيهم، والذي يتزاحم فيه الحنين إلى الأمة كمفهوم عابر للمكان وإلى الخلافة كتجربة تجميعية افتراضية، والتي يهيمن عليها الاستعلاء واستبطان أن الآخر كافر أو ذمي تابع وضعيف، ثم يتحولون إلى الوعي بالمواطنة المحدودة في المكان والتي تتبنى قيما مغايرة؟

أسلمة النيوليبرالية

لا ينتهي هذا الجدل بقرار سياسي يحاول تبديد الشكوك، أو يسعى لفتح أبواب السيطرة على الدولة، بل هو جهد ثقافي وفكري يتبلور مع الوقت مستفيدا من الصدمات التي تعرضت لها الحركات الإسلامية وأدت إلى إظهار عجزها عن الحكم، وسقوط مفهوم الجهاد سقوطا مدويا حين أصبح واجهة للإرهاب.
ولا تقدر على هذا المخاض الكبير حركات محدودة الإمكانيات، وغير مهمومة بالثورات الثقافية داخل الموروث الديني. والنتيجة، فإن هدفها سيظل الوصول إلى السلطة والبحث عن صيغ لمواءمة وجودها مع الواقع.
وطالما أن المحدد الرئيسي في هذه المرحلة هو الوضع الاقتصادي والاجتماعي، لا يجد الإسلاميون من حلول سوى تبني الأنماط القائمة كبدائل لأزمات الناس بالرغم من أن هذه الأنماط تقوم على عناصر تتناقض كليا مع مفهوم الشريعة الذي يتبنونه.
وفي تجارب حكم الإسلاميين  ما بعد “الربيع العربي” لم تجد حركات محسوبة على الإخوان أن التعاطي مع البنوك الربوية يمثل مشكلا أو عائقا أمامها، وعلى العكس فقد باتت تتعاطى معه كأمر واقع ولا تمانع في التشجيع على قروض البنوك الدولية، وهي واعية أن تلك القروض تزيد من تعميق الأزمات الاقتصادية لبلدانها.
لكنها تجد دائما مخرجا في القاعدة الفقهية “الضرورات تبيح المحظورات”، وهو ما يعني آليا القبول بكل الاشتراطات التي تعرضها تلك البنوك. ووقعت في هذا المحظور الحركة الأم جماعة إخوان مصر خلال فترة حكمها برئاسة محمد مرسي، إذ لم تمانع في الاستنجاد بخطط البنك الدولي، والأمر نفسه بالنسبة إلى حركة النهضة في تونس، فضلا عن الحكم المرجعي للإخوان، أي التجربة التركية.
وبدا الإسلاميون أكثر حماسا لاعتماد الليبرالية أرضية اقتصادية لحكمهم و”أسلمتها” على حد اصطلاح الباحث المصري عبدالرحمن حسام.
وبالنتيجة، فإن إمبراطورية الإسلام السياسي المترامية وذات التجارب والهويات الحركية المتنوعة حين نزلت إلى أرض التجربة لم تجد من الإسلام سوى شعارات عامة وأفكار جزئية كانت قادرة على إغواء الناس لاتّباعها والانتماء إليها، لكنها تعجز عن حل أزمات الدول في وضع دولي متشابك.
وليس أمام الإسلاميين من خيار سوى الاندماج في الواقع والتحول إلى حركات ليبرالية قابلة للذوبان وتنشد التغيير الجزئي أو الانكفاء على نفسها وتبني خطاب المظلومية والعودة إلى هويتها الأولى حركات تمارس العنف تحت شعارات طوباوية، أي على شكل القاعدة وداعش كلما تلقت ضربات أعادت الانضواء تحت مسمى جديد بانتظار ضربات



Share on Google Plus

عن المدون gazalysidewalk.com

هنا نبذة عن المدون ""
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 comments:

إرسال تعليق