بقلم عثمان نواى
" فى اليوم
الأول لمؤتمر( جوبا ١٩٤٧) كان رأى جميع ممثلى الجنوب من الادارات الأهلية
والمتعلمين انهم غير مستعدين للمشاركة فى الجمعية التشريعية… لكن القاضى الشنقيطي
ظل طوال المساء يستخدم قدراته الشخصية الأقناعية( والترهيبية) من أجل اقناع ممثلى
الجنوب المتعلمين بتغيير تفكيرهم، محذرا اياهم من انهم باصراراهم على رأيهم( لن
تكون لهم كلمة فى حكومة المستقبل ).. " روبرت كولينز، تاريخ السودان الحديث
،٢٠٠٥. ص ٢٧٥
ان السودان دولة تدور حول نفسها فى
دائرة شريرة من الحروب والتهميش واحتكار السلطة منذ ما قبل الإستقلال. كما أنها
دولة تعيش كارثة هيكلية ذاتية جعلتها نهباً لتكرار ممل للاخطاء عبر التاريخ، وهذا
التكرار ناتج اساسا من ان النخب الحاكمة هى ذاتها منذ ٨٠ عاما، منغلقة على ذاتها
تنتجها نفس الأسر والبيوتات والمناطق، لم تتسع لتشمل بقيه شركاء الوطن ولم تتلاقح
مع افكار او تجارب السودانين الآخرين خارج مركز السلطة المهيمن تاريخيا. وبالتالى
نرى فى ٢٠٢٠ ذات العقليات وذات النهج يكرر ذات الأخطاء التى قادتنا الى أطول حرب
أهلية فى أفريقيا عبر أخطاء حدثت فى اربعينات وخمسينات القرن الماضي.
حيث شهدت جوبا مقر مفاوضات السلام
الايام الماضية ما يشبه حالة المساومة ومحاولات الترهيب ومن ثم التجاهل التى جرت
فى ١٩٤٧ مع الجنوبيين حينما كانت النخب الشمالية تلهث تماما كما يحدث الان لتشكيل
المجلس التشريعي الذى كان منحة من الاستعمار الإنجليزى وقتها حتى يتمكن السودانيون
من الوصول الى الحكم الذاتى. ولم يكن المجلس التشريعي وقتها سوى وسيلة " تعلم
الممارسة البرلمانية" للسودانيين ، كما قال السير روبرتسون نائب الحاكم العام
وقتها، والذى رفض قرار المجلس بالمطالبة بالحكم الذاتى لانه كان قرار "
لايمثل كل السودانيين"، وهذا كان حقيقة لان الأعضاء الجنوبيين ال ١٣ وممثلى
جبال النوبة فى المجلس رفضوا تماما قرار التحرك نحو الحكم الذاتى فى ظل الفوارق
الكبيرة بين الجنوب وجبال النوبة وغيرها وبين الشمال. وقال بنجامين لوكى، عضو
المجلس التشريعي عن الجنوب وقتها " فى السودان أجزاء كبيرة متأخرة منها
الجنوب، ولم يحدث شئ بعد للنهوض بها..". وهدد أعضاء الجنوب وجبال النوبة
بالخروج من المجلس التشريعي اذا اجيز قرار الحكم الذاتى، ولكن تم التصويت على
القرار من قبل غالبية حزب الأمة وتم تمرير للقراربتفوق صوت واحد فقط بغالبية ٣٩
مقابل ٣٨ صوت. وهكذا دوما، وعبر التاريخ السودانى تم اتخاذ القرارات المصيرية
للدولة السودانية بالغاء كامل لوجود الآخرين وتجاوز وتجاهل لهم بالكامل.
اليوم فى ٢٠٢٠، ذهبت قحت واجتمعت
بالمجلس العسكرى وخرجت بمصفوفة وقررت انشاء مجلسها التشريعي دون إعلام او استشارة
او احترام لاعتراضات القوى الممثلة لملايين السودانيين الذين يفترض تمثيلهم فى
المجلس التشريعي المرتقب اذا كان الغرض الحقيقي هو الديمقراطية كما يدعون. لتكرر
نخبة قحت ويكرر أفندية تجمع المهنيين ذات أخطاء اجدادهم أفندية مؤتمر الخريجين. ثم
لا يخرج الوطن ابدا من كبوته المصنوعة بيد نخبته الحاكمة الأكثر اجراما فى حق
شعبها على مر التاريخ.
والأزمة الأكبر ان ذات أصوات الترهيب
والوصاية على قضايا الهامش التى مارستها نخبة الأربعينات من امثال القاضى محمد
صالح الشنقيطي، يأتى اليوم يمارسها القحاتة، ومؤيديهم. حيث يصيغون كم هائلا من
المبررات لقرراتهم فى الوصاية وتجاوز الهامش تبدأ من دعوى ان الحركات فى الهامش هم
مجرد "بندقجية او حملة بندقية"، وهو المقابل لوصف الجنوب ومناطق الهامش
قبل الإستقلال بالجهل والتخلف، حتى يجد اهل المركز لأنفسهم رخصة اتخاذ القرار
نيابة عن الجهلاء، والان يريدون صناعة رخصة جديدة لممارسة نفس تلوصاية التاريخية تحت
راية المدنية والنضال المدنى الثورى. وأنه لأمر عجيب ان يكون من يعتقدون انهم
الوطنيون ومنقذى الأمة انهم بثورتهم المدنية عبر الهاشتاجات والتويتر والفيس بوك
والتى يديرها كثيرون من تلفونات الايفون وشاشات الاى باد، انهم لهم الحق فى الحكم
على وسائل ثورة الذين يعيشون فى الكراكير ويعيشون فى بيوت القش بلا مياه ولا تعليم
ولا كهرباء تشغل الموبايلات ناهيك عن الإنترنت. ولم يصلهم من الدولة السودانية منذ
نشاتها سوى البنادق والقمع، فما استخدام البندقية الا وسيلة الدولة السودانية
المركزية نفسها في الحكم فى تلك المناطق ،وهنا تظهر الامتيازات، حيث يحكم البعض
بالبندقية فقط ويقتلون بها والآخرين يحكمون بالتعليم، والدليل هو نسب التعليم في
الشمال مقارنة ببقية السودان التى تصل الى ٧٠ فى المائة فى الشمال واقل من وين ٣٠
فى المائة فى مناطق النزاعات حسب الإحصاء السكانى ٢٠٠٨.
ولا يكاد السودان يرى ضوءا فى نهاية
النفق حتى تخرج عصابات الحكم المهيمنة تاريخيا لتفرض مصلحتها فى ان يعيش
السودانيون فى الظلام حتى يتمكنوا من قيادته بقواهم الخارقة المتوارثة من جدودهم
أصحاب الوصاية الإلهية القادمة من السماء عبر اضغاث احلام لم يجعل الله لها من
سلطان. او نظريات تقدمية فى ظاهرها، متعالية واقصائية وسلطوية فى باطنها ، لكنها
تلتف بضعف رؤيتها وهشاشتها كحبل المشنقة الذى يخنق فرص الوطن فى التنفس بحرية
وربما يقود لموته الوشيك..
nawayosman@gmail.com
ونواصل..
0 comments:
إرسال تعليق