السلام: هل هو نهاية الصراع السودانى؟

 

 بقلم عثمان نواى

فاضت السوشيال ميديا منذ توقيع اتفاقات السلام الأخيرة وبعد الاحتفالات بالتوقيع في الأسبوع الماضي بكثير من النقاش الذى غالب عليه نبرات الصراع اكثر منها نبرات السلام. ولم يكن الأمر مفاجئا ابدا، فمن يظن ان توقيع اتفاقيات السلام وإنهاء صوت البنادق هو الذى ينهى الصراع ككل فهو متوهم. الحقيقة ان السلام الموقع الان والذى ربما يتم توقيعه مستقبلا والذى تم توقيعه من قبل مع مناضلى جنوب السودان ، هو عملية وقف استخدام السلاح لإدارة الصراع الاجتماعى السياسي والفكرى التاريخي فى السودان وهو الصراع الذى شكل القاعدة الرئيسية لمنطلقات الحرب.

لذلك فإن استمرار حالة الغضب المتبادل حتى من بنود اتفاق السلام نفسه من أطراف مختلفة، فانها مجرد تعبير واقعى وحقيقي وأيضا يؤكد على مدى عمق الصراع الاجتماعى السياسي فى السودان. وربما الدور الأكبر الذى تلعبه اى اتفاقية سلام هو الاعتراف بوجود هذا الصراع من الأساس عبر سبل قانونية وسلمية. ولكن المؤكد انه قضايا الصراع الرئيسية سوف تظل فى طاولة النقاش والتفاوض بين القوى الاجتماعية والسياسية المختلفة ما بعد توقيع الاتفاقيات لزمن طويل وربما لا تصل تلك القوى على الأرض الى اتفاق ما بينها ما بعد صناعة السلام المكتوب فى الوثائق لان توازنات التوافق على الأرض لها شروط مختلفة. ولذلك فإن عدم التعلم من تجربة انفصال الجنوب يبدو أنها مشكلة كبيرة لكل الأطراف السودانية. فما حدث فى اتفاق نيفاشا لم ينتج سلام بقدر ما انه أوقف الحرب، كما أن نتيجته الحتمية ما كان  بالضرورة ان تصبح الانفصال. فحق تقرير المصير فى الاتفاق كان أكبر نقطة أكدت على مدى حدة الصراع نفسه وعمقه التاسيسي فى تشوهات بنية الدولة السودانية ، وبما ان الصراع الأساسى هو حول كيفية إيجاد معادلة الشراكة فى الوطن، فهو لم ينتهى الا بنهاية المسبب وهو إنهاء الشراكة  من الأساس  فى الوطن المسمى السودان فى حالة الجنوب.

فعليا الآن الصراع السودانى على أوجّه  ما بعد اتفاقيات السلام وهذه هى الحقيقة الراهنة. لأن الاتفاقيات حاولت وضع منطلقات مبدئية تؤسس لاحتمالات صناعة معادلة الشراكة المتساوية فى الوطن. اى ان الاتفاقيات نقلت النقاش حول الصراع السياسي والاجتماعى مجددا الى المجال العام بدلا عن إغلاقه فى غرف التفاوض او ساحات المعارك العسكرية، ومع المساحات المفتوحة على السوشيال ميديا تخرج للعلن الأفكار والمشاعر الحقيقية للبعض التى ام  ظلت مكبوتة اوكانت تعبر عن نفسها بصوت السلاح من الطرفين لسنوات طويلة.

 لكن علينا الان ان نتواجه مع حقيقة ان معركتنا التاريخية كسودانيين مع بعضنا ظلت نابعة من  عدم قدرتنا على إيجاد معادلة الشراكة فى إدارة الوطن بما يرضي جميع الأطراف. ولذلك فإن ما كشفه اتفاق السلام الراهن من خطابات يراها البعض متطرفة، هو فى الحقيقة البديل الشرعى لإدارة الصراع عبر الحديث وليس والرصاص. فإذا كان أحدهم مستعدا للقتال ببندقية من أجل قضية ما قبل اسابيع قليلة، فليس من السهل ان يتحول ذات الشخص الى شاعر  فى غضون ايام، لأن مسببات حمله للسلاح لا تزال مجرد كلمات على ورق. وحملة السلاح هنا ليسوا فقط أعضاء الحركات المسلحة ،لأن الحرب كان فيها طرفين، فهناك من جاهدوا وقاتلوا من الطرف الآخر أيضا سواء كان ذلك عن قناعة او انتماء للجيش او انتماء للنظام البائد، ولكن الحرب لا تكون ابدا من طرف واحد فهناك طرفين حاملين للسلاح، و الطرفين يمرون بمرحلة انتقال ما بعد توقيع الاتفاق ولذلك فإن النقاش الدائر الآن له وجهين أيضا. وحتى تتحول الكلمات فى الاتفاقيات الى واقع فيجب علي قادة ونخب السودان ومثقفيه ان يتعاملوا ويتعلموا من الواقع وليس من فرضيات اللباقة الخطابية وعليهم مواجهة الغضب من كل الأطراف بذات الشجاعة التى كان يمكنهم بها مواجهة قرارات صناعة الحروب، وعليهم ان يستخدموا ردود الأفعال الراهنة بجدية فى تقدير خطوات تطبيق تلك الاتفاقيات، والا فإن تجاهل ردود الأفعال أى كان مصدرها إنما سيصنع مخاطر مختلفة سوف تعرقل عاجلا او اجلا تحقيق تصورات بناء السلام المكتوبة فى الاتفاقيات .

ان محاولة ضبط خطاب الشارع وخطاب الكراهية بشكل عام هو امر ضرورى ويجب أن تشكل قوانين حاسمة للحد من خطابات الكراهية من جميع الأطراف دون تحيز. ولكن المثقف والسياسي السودانى عليه أن يعلم انه الان يعيش فى عصر ديمقراطية الرأى عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالى فإن ما تعكسه هذه الوسائل له أهمية كبيرة فى قياس توقعات الناس ومعرفة مخاوفهم. وبالتالى فإن الجلوس فى منصات عاجية ومحاولة توجيه خطابات الناس حسب فرضيات ما هو صحيح بالنسبة للنخب، ومحاولة تجميل الواقع بزيف اللغة لن يؤدى الا لفقد تلك النخبة، وكالعادة لقدرتها على التواصل مع الشعب. وفى ظل انفتاح السوشيال ميديا فإن خطابات political correctness تنزوى بشكل كبير فى مواجهة شعوبية متصاعدة عبر العالم ،خاصة مع اتساع فجوات التعليم والثروة بين التسعين فى المائة الافقر والعشرة فى المائة الأغنى والأكثر تعلما. فلا يزال الديمقراطيين فى أمريكا فى حالة ذهول من ان اكثر من ٧٠ مليون أمريكي لازالوا يريدون ترمب. هذا هو الواقع الذى لا مهرب منه. كذلك فى السودان واقعنا يؤكد على ان الصراع الاجتماعى وغبائن التمييز والخوف من الاخر لازالت تسيطر على واقعنا. لذلك تغييب الواقع من النقاش العام او قمعه لن يلغيه، ربما يؤجل المواجهة معه فقط.

 لذلك فإن نخبة السودان السياسية بحاجة إلى أن تبدأ فى عملية بناء وسائل إدارة الصراع الاجتماعى السياسي الجديدة والبديلة عن السلاح وان لا تركن لكونها حققت السلام، بل عليها ان تعى انها فقط نقلت منصات الصراع الى مساحات سلمية ،وبالتالى فإن مصير اتفاقات السلام نفسها رهين بأن تتمكن الأطراف المختلفة بما فيها الحكومة والجيش السودانى كجزء رئيس من محركات الصراع السودانى، ان تتمكن جميعا مع بقية مكونات المجتمعات السودانية وقواه السياسية والاجتماعية من صناعة أدوات بديلة للسلاح لإدارة الصراع السودانى المستمر حتما وربما بقوة اكبر حتى ما بعد توقيع اتفاقيات السلام.

osmanhabila@protonmail.com

Share on Google Plus

عن المدون gazalysidewalk.com

هنا نبذة عن المدون ""
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 comments:

إرسال تعليق